حرب العملات تاريخيا.. الروبل والدولار من المنتصر في حرب أوكرانيا
حسن عويسات
جو 24 :
تتحدث روسيا وتطلق تصريحات مدوية أن من يملك السلاح النووي لن يخسر حرباً عسكرية
أذن مما تخاف روسيا وما هي تلك الحرب التي تخشاها ...وماهي الحرب التي خسرتها ويخشى بوتين ومعه لافروف ومدفيديف من تجرع مرارة تلك الخسارة مرة أخرى من نفس الاقداح وبنفس الافواه.. فهُم الجيل نفسه الذي خسر معركة الاتحاد السوفييتي مع الغرب الرأسمالي ويدرك تمام الادراك ان الحرب التي خسرها الاتحاد السوفييتي لم تكن عسكرية ولا في الجانب العسكري ولم تُطلق رصاصة واحدة وأنما كانت تلك الحرب التي خسرها فضائُها الاقتصاد والاعلام.
فأذا كانت المستشارة الألمانية السابقة ميركل تقول إننا رضينا باتفاقيات مينسك لكي تستعد أوكرانيا للحرب فأن روسيا تستعد منذ استلام بوتين الحكم قبل عشرين عاما لهذه الحرب التي نستطيع أن نسميها بحرب النقود والاقتصاد فالمنتصر في هذه الحرب هو من يرسخ ثقة العالم بعملته واقتصاده ويجعلها مصدر طمأنينية لأصحاب رؤوس الأموال والتجار والمواطنين.
فمن أين تأتي العملات بقوتها وهيمنتها؟ وكيف بأوراق مطبوعة بالأحبار تكتسب وتحوز كل تلك القوة والهالة بحيث تصبح اداة لشراء كل ما هو على سطح الأرض؟ وبالذات بعد أن اُلغيت قاعدة الذهب التي تبيح استبدال العملات بما يعادل قيمتها من الذهب المقوم.
السر هو في كلمة واحدة وهي الثقة؛ الثقة التي تترسخ في نفوس المواطنين بعملة دولة معينة فتمنحها القوة والسطوة والحضور والثقة في الدولة التي أصدرت تلك العملة بقوة من اقتصادها وانتصاراتها وقوتها العسكرية فعبر التاريخ كان الامبراطور او الملك او الحاكم او الخليفة يعطي أمرا مكتوبا مذكورا فيه أعطيك كلمتي الشخصية أن هذه العملة تحتوي على مقداراً معيناً من الذهب وأن أي تزوير بحق هذه العملة يعتبر أنتقاصاً مني وسيعدم كل من يحاول التزوير وهذا ما كان يعطي صناعة الاحبار والآت الطباعة هالة وحصرية لبعض العائلات على مستوى العالم كافة ومحمية من جميع أجهزة الدول.
لذلك كانت قوة وهيبة الحاكم والدولة هي التي تعطي لمختلف الشعوب داخل الدولة وخارجها الثقة للنقود والعملات الممتدة عبر الفضاء المكاني والزماني مرسخة في وعي وذهن الشعوب قوة العملة .والثقة هذه المتخيلة بين الافراد أنتقلت عبر التاريخ من الاصداف الى البرونز والفضة الى الذهب الى العملات الورقية وصولاً الى الدولار الأميركي حتى أن هذه الثقة المتخيلة أنتقلت الى نقود البيانات الالكترونية بتعدد اشكالها ان كانت نقود ذات قيود الكترونية في البنوك التجارية والمركزية انتقلت من قيود كتابية الى الكترونية او كانت عملات الكترونية مشفرة لها مجتمعاتها الخاصة .
فمفعول الثقة المتخيلة والمترسخة بنفس الوقت في نفوس الناس بالعملات قد يستمر تأثيرها النفسي حتى بعد سقوط الدول فالمسلمون والمسيحيون عبر صراعاتهم السياسية والدينية كانوا يستمرون في استعمال عملة الدولة المنهزمة لفترات بعد سقوطها لحين ترسخ ثقة جديدة بالدولة المنتصرة وعملتها في متخيل ونفوس ووعي الشعوب فالدولة الإسلامية استمرت باستخدام الدينار الروماني حتى ضرب الخليفة عمر بن الخطاب الدرهم الفضي الإسلامي وبعد هزيمة المسلمون في الاندلس اصدر المسيحيون عملة منقوش عليها بالعربي لا اله الا الله واستمرت الاندلس ورجال الكنيسة والمواطنون في استخدام الدينار الإسلامي .
الى هذا التاريخ كان هناك كثيرا من الواقعية في هذه الثقة المتخيلة لأنها تستند الى واقع مادي يرتكز الى نقود معدنية من الذهب والفضة لكن ما كان يثير الريبة والشك هو العملات الورقية المطبوعة والتي اخذت قرنا من الزمان حتى تنال ثقة ذهنية في العقول والنفوس وبالذات انها في البداية وفي أوروبا كانت تصدر من بنوك خاصة وهي بالأساس تطورت عن صكوك الدين المكتوبة بين التجار فمع مرور الوقت تحولت فكرة الدين المكتوب بالورق الى عملات ورقية تصدرها البنوك الخاصة ثم تطورت الى أن أصدرتها البنوك الحكومية التي سميت مركزية ثم أصبحت تصدر بقانون بأن الدولة المُصدرة للعملة تضمنها .
هذه الثقة جرها ونالها بكل جدارة الدولار الأميركي عبر سطوة امبريالية عسكرية واقتصادية مستنداً الى اقتصاد أميركي قوي وضخم وقوة عسكرية غاشمة ابادت واحتلت كثير من الشعوب والبلدان ولم تكتفي اميركا بقوتها الاقتصادية والعسكرية بل أجبرت دول البترول وهو السلعة الاستراتيجية الأهم في العالم بتسعير البترول بالدولار حتى اطلق على الاقتصاد اقتصاد البترودولار غير مكترثة بقاعدة الذهب لتقويم العملات بداية من سبعينيات القرن الماضي فارضة الدولار عملة استعمارية واحدة على جميع شعوب وبلدان العالم وخاصة بعد سقوط الاتحاد السوفييتي بحيث اصبح العالم كله تحت سيطرة وسطوة الدولار ...فالدول الحليفة والتابعة والعميلة تُطبع لها الدولارات لتسد احتياجاتها من كل دول العالم والدول التي ترفض سيطرة اميركا تُحاصر وتحارب لتسقط وتُدمر ..وزادت سيطرة اميركا والدولار بعد ابتداع نظام سويف للمبادلات المالية
بحيث لا حاجة لنقل الدولارات المادي انما يتم التحويل بين الحسابات بكبسة زر.. فأصبح الدولار ونظام سويفت اقوى من الدبابات والقوة النووية؛ يسقطان دول ويخنقان دول.
هذه الثقة بالدولار ونظام سويفت هما ما كانت تخشاهما روسيا في مواجهة اميركا والغرب الرأسمالي الذي وجد روسيا انها العقبة الوحيدة في فرض حكومة العالم الواحدة ...
لذلك نرى ان روسيا لم تبادر الى الحرب إلا بعد أن ضمنت مواجهة متكافئة مع الدولار المالي الاستعماري بعدة مستويات ومجالات واتجاهات.. فهي
1-ضمنت أنشاء تكتل اقتصادي عالمي يستند الى قوة اقتصادية وبشرية وعسكرية كبيرة يضمن لها تبادلات اقتصادية مع سوق اقتصادية واسعة بعيدا عن العقوبات الغربية منشئة منظمة دول البريكس.
2- سعت الى هز الثقة بالدولار بعد ان عقدت اتفاقيات مع كثير من دول العالم لأجراء المبادلات التجارية بالعملات الوطنية لتلك البلدان نازعة وحدانية وحصرية الدولار كعملة وحيدة في التعامل التجاري مع دول العالم ...بالإضافة الى انها
3-أنشئت نظام للدفوعات والتحويلات المالية بعيدا عن نظام سويف الغربي بينها وبين دول البريكس.
4-سعت الى ضمان حياد العربية السعودية في المواجهة مع الغرب الرأسمالي من خلال توسيع أوبك والتزام أوبك بالبعد الاقتصادي فقط في تحديد كميات الإنتاج.
5-وفي سعيها الى هز الثقة بالدولار لربما انها اقنعت السعودية في اجراء عمليات بيع البترول بعملات أخرى غير الدولار.
لذلك نرى أن حرب أوكرانيا أساسها وجوهرها أقتصادي مالي نقدي وما المعارك العسكرية الا احد جبهاتها الوهمية والجانبية والطرفان الروسي والأميركي يدركان اين مكان وميدان الجبهة الحقيقي الذي يتنازلان به ويتجابهان به بعيدا عن الرصاصة والقذيفة والمدفع ...فسلاح الحرب الأوكرانية الروسية هو حشد تكتل دولي اقتصادي مضاد للهيمنة الأميركية يكون مجالا للسلع الروسية وترسيخ الثقة في الروبل الروسي بأعتباره عملة تعامل تقبل به عديد من الدول هو ومعه اليوان الصيني وعديد من عملات دول البريكس وكذلك اخراج البترول من دائرة التسعير بالدولار فقط .
روسيا كسبت الحرب منذ الشهر الأول لها عندما ارتفعت قيمة الروبل بدل من ان تهبط
وهي لأدراكها قيمة العملات في الحرب وفي بناء التحالفات نجد أنها تساند عملات دولتين بشكل كبير تسعى اميركا لكسبهما الى جانبها وأعني هنا تركيا ومصر لحجمهما وموقعهما وتأثيرهما في أي حروب قادمة فعندما ضغطت اميركا على تركيا من خلال تخفيض قيمتها عملت روسيا على اجراء مبادلاتها بالليرة التركية لتقويتها ..وهو ما تفعله الان مع مصر نتيجة للضغوط الأميركية على مصر فهي أدرجت الجنيه المصري ضمن سوق العملات في موسكو وتقبل الجنيه المصري في التبادلات التجارية معها .
الحرب اذاً هي حرب عملات ويبدو ان الروس وبوتين قطعا شوطاً كبيرا لكسبها
وأن الدولار سيهوي تدريجيا ليتعادل مع باقي عملات القوى الكبرى فسقوطه مرة واحدة سيتضرر منه دول العالم جميعها دون استثناء والجميع له مصلحة في تلاشي هادئ للدولار من سطوته على العالم .