لماذا وصل الوضع المائي في الاردن الى ما هو عليه؟
أحمد عبدالباسط الرجوب
جو 24 :
(1) تقديم
تتزايد تعقيد إدارة الموارد المائية في بلادنا بشكل مطرد مع نمو الطلب، وهو ما يفضي إلى ظهور تحديات سياسية وتنظيمية ويمكن التعامل مع إدارة المياه من الزاوية الاقتصادية للتوزيع الفعال للموارد بين المستخدمين على اختلاف استخداماتهم للمياه، وكذلك من الزاوية الاجتماعية، التي تؤكد على أن الحصول على المياه النظيفة بسعر مناسب هو حق أساسي من حقوق الإنسان وبالتالي، فإن السياسة المائية في جميع أنحاء العالم مستوحاة من مجموعات من تلك المبادئ، مع توجهات الكيانات الحكومية والقطاع الخاص المخصصة عمومًا لإدارتها بدرجات متفاوتة، وهو ما يؤدي إلى ظهور تحديات خاصة..
أود القول ابتداءً ان الصراحة في إبداء الرأي بما فيه وجه المصلحة العامة مطلوبة، حتى لا تضيع تلك المصلحة في تلافيف المصانعة والرياء وتتلاشى بعوامل الجبن والاستحياء، ولا يضير أي مواطن كحالتي عمل في ادارة واستراتيجيات المياه وفي راس هرم المسؤولية سابقًا - أن تكون له وجهة نظر معينة في مسألة يدافع عنها ويجتهد في إقناع الآخرين للأخذ بها ما دمنا نفعل ذلك بحسن نية في سبيل المصلحة العامة..
(2) التشخيص
الوضع المائي في الأردن يمثل التحدى الاكبر والنموذج الاكثر قساوة حيث ان حصة الفرد الأردني تعتبر من الاقل في العالم ولا تتجاوز 15 % من مستوى خط الفقر المائي الذي حددته المنظمات الدولية بــــــ 1000 م3 سنوياً ، فيما حذرت دراسات دولية من تراجع حصة الفرد في الأردن والتي قد تصل إلى 60 متر مكعب سنويا بحدود عام 2040، في ظل استمرار الأوضاع المائية الحالية، من حيث الموارد المائية المتوفرة ومعدلات الطلب الطبيعية المتوقعة..
يواجه الاردن عجزًا مائيًا يتفاقم بشكل سنوي، حيث من المتوقع أن يبلغ خلال هذا العام 2023 نحو 60 مليون متر مكعب في قطاع مياه الشرب وحده، بحسب الأرقام الرسمية الصادرة عن وزارة المياه والري ، وفي هذا السياق لا بد من الاشارة الى اختلال الميزان التجاري في المواد الغذائية من أجل احتساب الخلل في ميزان الموارد المائية والسكان. فالعجز الذي تتحدث عنه الوزارة (٦٠ م م م) عليه تساؤل حيث لم ياخذ في الحسبان ما الذي تنتجه المياه للمجتمع والسكان - كما انهم لا يأخذون في حسبانهم المياه الخضراء وهي الرطوبة في التربة جراء هطول الأمطار وهي الرطوبة التي تدعم الانتاج الزراعي البعلي - ، ولا يغيب عن البال تراجع المواسم المطرية بشكل غير مسبوق في السنوات الأخيرة، وفي هذا السياق تشير التقديرات إلى فقدان حوالي 50 % من المياه بسبب وجود اهتراء وكسور شبكة الأنابيب والتسرب في نظام النقل والتوزيع بالاضافة الى الفاقد الاداري، كما أن أنظمة الري بالغمر في زراعة الحقول المفتوحة غير فعالة من الناحية الفنية، وتشير الأبحاث إلى تبخّر ما يقرب من 50٪ من المياه المستخدمة في الري خاصة في الاغوار.
يتأثر استخدام المياه بشدة بالتطورات السياسية في قطاعات الاقتصاد الأخرى، وخاصة في القطاعات الزراعية والصناعية. لذلك، تتطلب الإدارة المستدامة للمياه نهجًا نظاميًا شاملاً تندرج عليه التنبوء المستقبلي ومتطلباته وهى حالة الامن المائي والتي يندرج في سياقها المشروع الوطني لناقل المياه وهو ما يوصف في نطاق الهدف السادس من أهداف التنمية المستدامة التي وضعتها الامم المتحدة ، "ضمان توفر المياه ذات الجودة المقبولة للحفاظ على سبل العيش، ورفاهية الإنسان، والتنمية الاجتماعية والاقتصادية وخدمات الصرف الصحي للجميع وإدارتها إدارة مستدامة". ، كما وتؤثر ندرة المياه وسوء نوعيتها وضعف تجهيزات مرافق الصرف الصحي تأثيرا سلبيا على الأمن الغذائي والخيارات المعيشية والفرص التعليمية للأسر الفقيرة.
وفي اطار (التشخيص) المدروس والتقييم التحليلي لواقع ادارة موارد المياه في البلاد وعلى ضوء مؤشرات الاداء للقطاع بشكل عام واداء شركات المياه بشكل خاص اضع امامكم بعضًا من النقاط التي ارى بانها المفصل المؤلم الذي اصبح عليه حال ادارة قطاع المياه في بلادنا وعلى نحو كما يأتي:
اولاً: غياب تعزیز أسس فعالة للحوكمة والاستراتيجيات وخطط الطوارئ والمسائلة بما یتناسب مع المصالح المشتركة لكافة الجهات المختصة ، وادراكا لاهمية قطاع المياه ولمواجهة مجمل التحديات التي تواجه هذا القطاع الحيوي الهام فقد برزت اهمية عمل دراسة شاملة لسياسة الموارد المائية وتحديث / تطوير الإستراتيجية الوطنية بعيدة المدى للموارد المائية لتحقيق التنمية المستدامة وبما يوفر الامن المائي لبلادنا .. نشرح اكثر ونقول:
- تحديث وتطوير استراتيجيات المياه وفقا للمنظور الاستثماري في اقتصاديات ادارة المرافق المائية، وهنا لا بد من الحديث بعجالة عن موضوع الاستراتيجيات التي تم اعداها والتي في معظمها تواضع في محتواها بحيث لا يمكن تطبيقه وانها من مصفوفات الكلام الانشائي اذ لا يمكن تحقيق أهداف التنمية المستدامة دون المحافظة على البيئة وحمايتها من التلوث والتدهور، ودون تنمية الموارد المائية، وكذلك إدارة العرض والطلب لجميع موارد المياه عبر بناء منظومة تكاملية للعلاقة الفعالة بين الماء والغذاء و الطاقة، واي استراتيجيات للمياه لاتشمل استراتيجية الامن الغذائي والامن الصناعي قيمتها صفرا وتعتبر ناقصة...
- وللتذكير كانت اول استراتيجية للمياه تم وضعها في التسعينيات من القرن الغابر (1997) حيث احتوت على السياسة والاستراتيجية المائية ، وهى تعتبر بحق مرجعا للاستراتيجيات اذا ما تم تحديثها وتطويرها لتوافق مقتضيات العصر والتطور التكنولوجي ، وفي ذات السياق بان الاصل المتعارف عليه بان هذه السياسات والاستراتيجيات تتغير بمرور الزمن وتغير العوامل المؤثرة فيها ، فما هي السياسات التي تغيرت وفي عهد اي من وزراء المياه والتي اوصلت الاردن الى حالة شح الموارد وجفاف السدود وانقطاعات المياه..
- ثم بعد سنوات توالى اطلاق الاستراتيجيات بدءً من عام 2002 ، عام 2009 ، والاستراتيجية الوطنية 2016 – 2025 ، وحديثًا الاستراتيجية الوطنية للمياه 2023 - 2040 ، وكما قدمت ( إبداء الرأي بما فيه وجه المصلحة العامة مطلوبة، حتى لا تضيع تلك المصلحة في تلافيف المصانعة والرياء وتتلاشى بعوامل الجبن والاستحياء ) - فقد توقفت عند بعض الملاحظات الهامة على هذه الاستراتيجيات (دون التخصيص) وعلى سبيل المثال لا الحصر:
أ. خلوها من المبادارات الواعدة التي تخرج عن عرف ما تم التعريض له من مواضيع ما يلزم الاستراتيجية من خطة تنفيذية تقوم عليها مؤسسات الدولة المعنية بقضايا قطاع المياه وبخاصة مؤشرات اداء اقتصادية مرتبطة بالنفقات وما يتصل الى البرنامج الوطني للامن الغذائي والى غير الكثير من المواضيع التي لا يتسع المقام لذكرها..
ب. عدم التركيز على الامن المائي من منظور الاعتماد على استراتيجية محكمة والاستغناء عن شراء المياه من دولة الجوار المحكوم بالمتغيرات الجيوسياسية في اغلب الاحيان ، والتركيز على تقليل فاقد المياه الذي نسبته (50%) بما يعادل 225 مليون متر مكعب من الكميات المدفوعة للشبكات ، وفي رأيي ان الفاقد هو مصدر مائي بين يدينا لو احسنا ادارتة ومكافحتة (والتشديد على مكافحتة)..
ت. يغفل ممن تعهد اليهم اعداد الاستراتيجيات ان هناك اسس متعارف عليها في هذا المجال ، فمثلا الاصل ان يسبق اعداد السياسة المائية قبل الاستراتيجية لان السياسية المائية تعتبر الاطار العام لمنهجية تنظيم وادارة مرفق قطاع المياه في حين الاستراتيجية هى الاداة الضامنة للتنفيذ ، ثم ايضا وهو المهم غياب وضع الخطة التنفيذية للاستراتيجية المحكومة بمؤشرات الاداء التي تحكم ايضا المبادرات التي غفلت عنها ما سميت بالاستراتيجيات المائية والشرح يطول.. فهمكم كفاية..
ثانيًا: هل الهيكل التنظيمي لقطاع المياه اصابة العطب في نهاية المئوية الاولى ولم يتوافق مع عبور المئوية الثانية؟.
ثالثًا: تعيين القيادات العليا بوزارة المياه لم تخضع احيانا للمنافسة لاختيار الكفاءات ويكون لوزير المياه والري القرار الفصل قي ذلك وما يعترية من حسابات شخصية في اغلب الاحيان.
رابعًا: عدم تجاوز عناصر الضعف (والنقص) وغياب منهجية خارطة طريق جديدة واضحة المعالم تعتمد على حاكمية سياسة مائية..
(3) خلاصة القول:
لا جناح علينا أن نختلف مع غيرنا في وجهات النظر بعيداً عن الشطط في الاختلاف، إذ الحقيقة دائماً وليدة اختلاف الرأي، لا يجلبها إلا قرع الحجة بالحجة والبرهان بالبرهان، فالفكرة النبيلة تحتاج الإحساس قبل الفهم.. وهنا نخلص فيما قدمنا اليه الى الحقائق والمفاصل التالية:
1. نتساءل هنا وبصدق الباحث عن الحقيقة .. هل حقا الاستراتيجيات المائية توضع على الرف ولا يهتم بها احد؟ ، .. من حقنا التساؤل مجددا ورغم هذه الاستراتيجيات .. لماذا وصل وضعنا المائي الى ما هو عليه؟ .. هل هى استراتيجيات الكوردورات (المسلوقة)؟.. وهنا للتنوية فقط ومن خلال عملي في دولة قطر ، حيث كنت ضمن الفريق الفني (المتابع) لوضع الاستراتيجية الموحدة للمياه و خطتها التنفيذية لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية 2015 – 2035 ، وايضا استراتيجات المياه لدولة قطر عام 2005 ، عام 2018 على التوالي حيث كانت تعد جميعها وتكتب بطريقة مهنية تشارك في وضعها بيوت الخبرة من الشركات العملاقة في مجال استراتيجيات المياه والجامعات ومراكز البحث العلمي والمؤسسات المعنية بقطاع المياه من خلال عقد عشرات ورش العمل يشارك فيها خبراء ومختصون باستراتيجيات المياه ، .. فهل كان بمقدور القوم في بلادنا حذو هذا النهج؟!.. لم نسمع عن ورشات عمل تناقش استراتيجية المياه وبمشاركة المعنيين من الخبراء والجامعات والمراكز البحثية وحتى من كوادر وزارة المياه.. الخ..؟..
2. التركيز على الترابط بين المياه والغذاء والزراعة والاخذ بالاولويات التالية:
أ. دراسة آلية الترابط بين المياه والزراعة والغذاء ، حيث تعتبر الزراعة المستهلك الأكبر لمصادر الميــاه العـــذبة ، وهنا لا بد من الادراك بأن مشكلة شح المياه تهدد الأمن المائي والأمن الغذائي.
ب. نظرا لان النمو السكاني في الاردن يرتفع بشكل مضطرد وخاصة خلال العشرة سنوات الاخيرة بما يفوق معدل النمو السكاني الطبيعي الامر الذي يصاحبة نحو استهلاك المزيد من الغذاء.
ت. تعتبر الزراعة أحد القطاعات الحيوية وأحد ركائز التنمية الاقتصادية والاجتماعية ، وتشكل مصدرا للغذاء وتساهم كذلك في الحصول على موارد مالية من خلال عائد الصادرات من السلع الزراعية والغذائية .
3. وهنا نؤكد بشكل واضح لا لبس فيه بأن ملكية الموارد الضرورية لحياة الناس وبخاصة ادارة الموارد المائية ليست حكرًا على شخص بعينه ينفرد بالتصرف فيها، مذكرا في هذا السياق أن " الدينْ عند من يؤمن به ويحترم قوانينه، يحكم حكما صريحا بأن ملكية الموارد الضرورية لحياة الناس هي ملكية عامة" ولا يصح بحال من الأحوال، وتحت أي ظرف من الظروف، أن تترك هذه الموارد تحت ادارة فرد، أو أفراد، لينفردوا بالتصرف فيها دون مشاركة الخبراء واهل الراي في ادارة وتنمية هذا المورد العام .
4. الماء بمفهومه الشامل، الذي يبدأ من الجرعة الصغيرة وينتهي بالأنهار والبحار، يأتي في مُقدمة الموارد الضرورية التي تنص شرائع الأديان على وجوبِ أن تكون ملكيتها ملكية جماعية مشتركة، ومنع أن يستبد بها فرد أو أناس، فإن هذا المنع أو الحجر أو التضييق على الآخرين، إنما هو سلب لحق من حقوق الله، وتصرف من المانع فيما لا يملك ، فالادارة الفاشلة المجربة التي تتسبب بعدم وصول مياه الشفة (الشرب) للناس لا يجوز ولا تحت اي ظرف ان تناط بها مسؤلية هذا القطاع الحساس..
(4) ختاما ...
من استشرافنا وحسب التصريحات الحكومية الراشحة لمشروع الناقل الوطني الذي قد يبصر النور مما بين العامين 2027 -2028 ، والذي يعد أهم مشروع استراتيجي للمياه في الاردن، وفي هذا الصدد اعيد التأكيد على ما كتبته في مقالي في هذه الصحيفة الغراء بتاريخ 19/9/2022 (هل ينذر عام 2023 بالعطش والجفاف وهل من حلول استراتيجية للخروج من «عنق الزجاجة»؟).. نقول ويشاركني الكثير من الخبراء الضالعين في استثمارات قطاع المياه هو :
- ملائمة مشروع الناقل "الوطني" للمياه بكلفته عند العداد مقارنة بدخل المستهلك، فإذا تجاوزت ٣٪ يكون المستهلك بحاجة للدعم، وإذا دخلت الخزينة لتزويد هذا الدعم فهو حل خاطئ.
- من الافضل تأسيس شركة مياه وطنية قابضة (للمستثمرين الاردنيين والاجانب) وعلى غرار شركة مصفاة البترول وشركة الكهرباء الوطنية لتاخذ على عاتقها السير باجراءات التفاوض والاعلان والترسية للمشروع..
السؤال الاستراتيجي يا سادة : فما نحن فاعلون في فترة الحقبة القادمة لوصول اول قطرة مياه محلاه ينقلها لنا الناقل الوطني من ثغرنا الباسم على خليج العقبة ؟!..
لعل ندوة مختصة يحضرها وزراء ومختصين ممن عملوا على الاستراتيجيات ومؤسسات البحث العلمي والجامعات الاردنية والهيئات المانحة وخبراء مياه يناقشون بحس وطني قضية المياه وارهاصاتها ومآلاتها خلال الفترة القادمة ووضع ما تم من استراتيجيات على طاولة التشريح لسبر غوارها والخروج بسياسة وخطة تنفيذية لادارة وتنمية الموارد المائية للعقدين القادمين..
* الكاتب خبير استراتيجيات المياه – الاردن
arajoub21@yahoo.com