إندفاع عاطفي!
محمود عطية
جو 24 :
فى منتصف تسعينيَات القرن المنصرم، كشفت إحدى وسائل الإعلام الأردنية عن مقطع مصور لأحد بيوت رعاية الأيتام الرسمية عندما كان القائمون عليه يعتدون على الأطفال بالضرب المبرح ووحشية صادمة!، لاقت هذه الواقعة ردود فعل عظيمة من قبل أبناء شعبنا الطيب وظلت حديث الساعة لأيام عديدة. لكن على المستوى الرسمي للدولة، كان لجلالة الملك الراحل الحسين بن طلال ردة فعل عاطفية هامة ولفتة كريمة، حين خصص أحد القصور الملكية لهؤلاء الأيتام وأمر بتعيين مربيات من حاشية القصر الملكي، يقمن على رعايتهم والإهتمام بشؤونهم.
للوهلة الأولى، ستظن ان القضية قد حلَت على أكمل وجه، فالاطفال ينعمون الآن وينامون على ريش النعام, هم يستحقون هذا بالطبع، لكن عليك أن تتذكر أمراً هاماً وهو أنهم ليسوا آخر أيتام الأردن! فى تقديري الشخصي أرى أن الأجدر ان ينعم مئات من الأيتام بمستوى حياة كريمة متوسطة، بدلا من حياة القصور لعشرات منهم وحسب؟ فالكلفة واحدة حينها مؤكَداً.
هذا ليس تقليلا من شأن المكرمة الملكية، لقد كان صداها ووقعها كبيرا فى نفوس الاردنيين جميعهم، إنما هو نظرة للواقع وبحث عن حلول عملية ملائمة ومؤثرة بشكل أكبر بكل تأكيد.
عندما تسافر الممثلة العالمية أنجلينا جولي إلى دولة مثل إثيوبيا التي تعد من بين الأشد فقرا على مستوى العالم، ثم تقوم بتبنى طفلة يتيمة، لتصبح هذه الطفلة بدورها نجمة هي الأخرى، تتتبعها وتلاحقها كاميرات الصحفيين فى كل مكان، كيف لا وهى الطفلة المدلًلة عند النجمة العالمية! السؤال الهام هنا: ماذا قدمت حضرتها إلى ملايين الجوعى والأيتام فى هذا البلد يا ترى؟
كذلك، عندما تقوم إحدى المؤثرات على مواقع التواصل بعمل حملة جمع تبرعات لأحد المشردين الذى فابلته فى الشارع، وقام بمساعدتها او تقديم خدمة معينة لها, فتقوم بعدها بتصويره ومن ثم تشتعل المواقع والمنصات لتنشغل بصوره وقصته لأيام ويصبح حديث الساعة، وتاتي بعدها التبرعات السخية من هنا وهناك, فتجده قد أصبح مليونيرا فى بضعة أيام فقط؟ هذه واقعة حدث فى أمريكا بالمناسبة، وغيرها الكثير من المواقف المماثلة التي تحدث يوميا فى شتى أنحاء العالم. هل إنتهينا من قضية المشردين جميعهم وقدمنا الحلول المناسبة والملائمة نهاية الأمر ؟
على الجهة المقابلة، ستجد هناك من فكر بحلول عملية وجذرية لقضايا عديدة ومختلفة, الطبيب الكويتي عبد الرحمن الصميط رحمه الله، خير مثال على هذا , فقد أمضى عقودا من حياته متنقلا بين مناطق أفريقيا النائية, يؤسس الجمعيات الخيرية والمستوصفات الطبية, ويساهم بدوره فى مشاريع البنية التحتية الهامة بجهد شخصي منه, لم يحدث يوما أن إقتلع طفلا من وطنه ليحضره معه إلى الكويت, حتى ينعم بهواء المكيف البارد ويرتدى أحسن الثياب! بل إهتم بالجميع وسعى لتوفير الحد الأدنى لهم, وهو الهدف المأمول قبل أي شيئ. ويأتي فى ذات السياق أيضا، الدور الذى لعبه مؤسس شركة مايكروسوفت فى مكافحة مرض الملاريا الذى يفتك بالآلاف سنويا فى أفريقيا كذلك، من خلال مساهمته السخية فى مشاريع الصرف الصحى والبيئة، كنموذج حقيقي لتقديم الحلول العملية.
أنا أطلقت وصف ( الإندفاع العاطفى) على ردود الأفعال تلك,التي لا تقدم بدورها الحلول الجذرية والشاملة للمشكلات، وأكرر أني لا أقلل من شأن أو قدر أصحاب تلك المبادرات والمساهمات, تظل أفعالا صالحةً أولا وأخيرا, لكن علينا أن نتذكر أن عاطفة الأم المفرطة وحدها تجاه أولادها، ليست هي الحل النافع والمجدي فى أحيان كثيرة!
لاحظوا أنني قدمت نماذج وأمثلة مختلفة, من هرم دولة كالملك حسين رحمه الله, إلى أشخاص عاديين, ربما أثرياء أو أصحاب شركات، لكنهم لا يتقلدون مناصب أو مسؤوليات حكومية بالتَأكيد, إذن هو وزر وحمل يقع على عاتقنا جميعا. نحن بحاجة لشراكة فعلية بين جميع مكونات المجتمع والبلد, نريد التخلص من هذه الفجوة بيننا ودفنها, متى ستصبح المسؤولية فى بلادنا تكليف وليس تشريف؟ أو يصبح الوزير فى نظرك إنسان عادي, أو النائب الذى وصل بصوتك إلى مقعده بني آدم مثلك! لن تتحقق الشراكة أو نصل إلى مجتمع متكاتف متصالح إلَا يتغيير المفاهيم البالية وثقافة التسلط والعلو.
الثري أو الملياردير الصالح فى بلادنا يسدد ضريبته كاملةً ويبرئ ذمته المالية وإلتزاماته تجاه الدولة ولا يتهرب أو يتملص منها فى أحسن حالاته! كيف تريده إذن ان يكون سخيا وكريما يقيم ويؤسس مشاريع لخدمة مجتمعه وأبناء بلده, خاصة إذا ما إضطر لتخصيص مبلغ لا بأس به من أرباحه، يقدمه لأصحاب النفوذ والقرار حتى تتيسر أمور تجارته وتتم أعماله على أكمل وجه!
هل سمعت عن رجل أعمال أردني، فكر يوما بإنشاء مصنع يقدم مادة غذائية هامة بسعر زهيد وبمتناول الجميع ، بعيدا عن حسابات الربح والخسارة، إحساساَ منه بالمسؤولية والواجب تجاه مجتمعه؟ لا يمكن طبعا, هو منفصل عن محيطه تماما ولا يعنيه المواطن بشيئ أكثر من كونه مستهلك سيشترى المنتج لأنه يحتاجه للبقاء حيا، وعلاقته بالسلطة بالجانب اللآخر ليست إلا منفعة متبادلة! لكنه مستعد لتقديم بعضا من منتجاته كهبات ومساعدات من حين لآخر, حبذا لو كانت تحت أضواء الكاميرات فى برامج خاصة، كتلك التى تأتينا فى رمضان كل عام ، وكأن الناس لا تحتاج الطعام إلا فى رمضان! يجب أن تكون المسؤولية مشتركة وعلى كاهلنا جميعا، تجاه الإنسانية جمعاء بمفهومها الواسع , والأهم أن تكون بعيدا عن الإندفاع العاطفي وحلوله المحدودة.