مستشار على الرّف!
محمود عطية
جو 24 :
قبل نحو عقدين من الزمن، سجلت فى احد الجامعات السودانية بنظام الدراسة بالانتساب ، بالنسبة للسودان عن بعد وانتساب افضل من الانتظام فى تقديري لما يعانيه هذا البلد من فقر وتراجع كبير بالموارد والتنمية، فى مرة ذهبت لإتمام اوراق التسجيل والشهادات فى مكتب الوكيل بعمّان، جلست بجانب رجل يضع عمامة بيضاء ضخمة وعرفت بعدها انه البروفيسور رئيس الجامعة! كان متواضعا لأبعد حد ويمازح الجميع، بدأنا الحديث معه عن السودان وأحواله على مر التاريخ، روى لنا قصة عجيبة حدثت فى عهد الرئيس الأسبق جعفر النميري وكان هو نفسه شاهدا عليها، قال أن النميري أمر ووجّه المستشارين والمختصين لإجراء تعداد سكاني للبلد، فباشرت الجهات المختصة بالعمل والإحصاء ، وبعد عدة شهور تقدم للرئيس جعفر كبير مستشاريه وقدم له مذكرة وملف يحوي جميع معلومات التعداد ليصادق عليه ، لكنه لم يكلف نفسه عناء البحث ، بل سأله مباشرة عن عدد السودانيين بالنهاية، فأجابه انه قارب العشرون مليونا، نظر الرئيس للمستشار وقال له إن تعدادكم باطل وكاذب، أنا بذات نفسي سلّمت على خمسة وعشرين مليون سوداني! وصدقوا أن النتائج الرسمية للتعداد نشرت بالصحف بالرقم الذي إدعاه رئيسهم!
بلادنا العربية تدار بمنطق الحاكم المتفرد الي حد كبير وإن تفاوتت الحدة من بلد إلى آخر ، تظل هذه هي سمة الحكم فى اغلب الاحيان، بالنهاية هي صلاحيات ممنوحة دستوريا ولا يشق لها غبار!أنا اوافق ولن أمانع أو اعترض ، لكن أين دور المستشار فى قرار الحاكم العربي؟ هل يستطيع الملك او الأمير أو الرئيس أن يكون نابغة بعلوم الاقتصاد والسياسة والثقافة حتي يتمكن من اتخاذ القرار الصائب من تلقاء نفسه! هذا الأمر مستحيل بكل تاكيد.
عندما انتهي الملك عبد العزيز ال سعود من حروبه، وحان دور السياسة وتأسيس الدولة بعدها، لم يركن إلى ذاته او يكتفي بمشاورة من حوله من الرجال، كان يعلم جيدا انهم أهل بادية بارعين بالقتال وقد حققوا المراد، لكن فى حالة بناء الدول والنظم الأمر مختلف مؤكدا، فلجأ إلى كل الخبرات السياسية العربية من العراق ومصر وسوريا وغيرها من الدول وجاء بهم كمستشارين ومعاونين له وبعضهم عيّن كوزراء وسفراء! وعلى نهجه سار حفيده محمد بن سلمان، فالمشاريع العملاقة بالمملكة حاليا والاقتصاد المتنامي والضخم فيها لم يأت من رأس شخص أوحد وإن كان اميرا او وليا للعهد، هناك نخبة عالمية وكفاءات فذة تعمل وتخطط وتنجز!
ذكر عبد الكريم النحلاوي وهو مدير مكتب رئيس الجمهورية السورية فى زمن جمال عبد الناصر، أن فكرة الوحدة بينهم وبين الجمهورية العربية المصرية جاءت فى سهرة جمعت ضباط كبار من الجيش السوري واقترح احدهم الفكرة فراقت لهم جميعا، ومن ثم ركبوا الطائرة باليوم التالي وقدموا المقترح للمصرين الذين رحبوا بدورهم، لا استشارات او دراسات ، قرارات وأهواء عاطفية أدت إلى كارثة اقتصادية فيما بعد! الأمثلة كثيرة ولا مجال لحصرها ولكم فى قناة السويس الجديدة عبرة يا أولي الألباب!
كثير من الاحيان نجد أن تعيين المستشارين يأتي وكأنه تكريم او منحة لنائب سابق أو سفير ووزير! نعلم حينها جيدا انه سيتقاضى راتبه وحسب وان القصة وجاهة ولقب سيظل يرافقه ويرافق ذريته وأحفاده من بعده! حبذا لو إلتفت الحكّام واصحاب القرار إلى دور المستشار الحقيقي وانتقوا اصحاب الخبرات والعلم، أو انزلوا من صلح منهم عن الرّف على الأقل! دمتم