بين د.محمد الغزالي وكارنيجي
ان الرقي الانساني في جانب الاخلاق ليس حكرا على امة دون اخرى فالرسالات السماوية من لدن ادم عليه السلام الى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم جاءت تقويما للسلوك البشري والسمو به الى اعلى غايات الكمال .
وفي الغرب الامريكي يطوف بنا السيد ديل كارنيجي في كتابه دع القلق وابدأ الحياة بمجموعة مباديء من ارقى ما وصلت اليه حضارة الغرب, تلك الحضارة التي انهكها القلق كما يدعي كارنيجي نفسه بان ثلثي المرضى هم معتلون نفسيا وليس جسديا .
لما في كتاب كارنيجي من قيمة للمباديء التي طرحها والتي يتوافق بعضها مع الدين الاسلامي , حيث تلتقي الفطرة السليمة في نهاية المطاف لتتقاطع هذه المبادىء الغربية مع ديننا الحنيف , قام المفكر الكبير محمد الغزالي رحمه الله بالتعليق على الكتاب بكتاب اسماه جدد حياتك , طاف بنا الدكتور الغزالي بفكره العميق بما يتفق وما يختلف مع ارقى ما وصل اليه الفكر الغربي, فكانت اضافته اثراء للعقل المسلم , ولما للمقارنه والمقاربه من فائده احببت ان اشارك قراءنا الاعزاء ببعض هذه المباديء املا ان يكون لنا مقال اخر يكمل هذه الموضوع الشيق.
اولى هذه المبادئ :عش في حدود يومك.اغلق ابواب الماضي واسدل الستار على المستقبل.
يقول توماس كارليل " ليس لنا ان نتطلع الى هدف يلوح لنا باهتا عن بعد , وانما علينا ان ننجز ما بين ايدينا من عمل واضح بيَن" .
ويقول د."اوسلر" موجها طلبته ان يبدأوا يومهم بدعاء المسيح " خبزنا كفافنا اعطنا اليوم" فهو لم يحزن على خبز الامس الرديء ولم يصح يا الهي لقد عم الجفاف ونخشى الا نجد قوت الغد, فهو يطلب خبز اليوم فقط .
واستمع الى قول المصطفى صلى الله عليه وسلم " من اصبح امنا في سربه , معافى في بدنه , عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها".
وكلمة حكيمة من كارنيجي قوله : هناك فارق بين الاهتمام بالمستقبل والاغتمام به فالهم رديف القلق ,كذلك بين الاستعداد له والاستغراق فيه .
تأمل معي حال المسلمين اليوم عندما يعقدون المقارنات بين حال الامة الاسلاميه واعداءها وقد نسوا ان المطلوب منهم قوله تعالى : واعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ..الايه) الانفال 60..علينا الاعداد وعدم الاغتمام بفرق القوة فان القوة لله جميعا.
ما مضى فات والمؤمل غيب وليس لك الا الساعة التي انت فيها, عش يومك وكانه كل ما تملك.
ثانياً: فكر في اسوأ شيء ممكن حدوثه, وطد نفسك على قبول اسوأ النتائج , حاول انقاذ ما يمكن انقاذه.
قانون لتبديد القلق , وقد تمثل قطري بن الفجاءة الشاعر العربي بهذا القانون قديما بقوله : هو اذن
اقول لها وقد طارت شعاعا من الابطال ويحك لن تراعي
فانك لو طلبت بقاء يوم على الاجل الذي لك لن تطاعي
فصبرا في مجال الموت صبرا فما نيل الخلود بمستطاع
حوار مع النفس المقبله على خوض غمار المعركه وتثبيت لها فان الفرار لن يطيل اجلا قد قدره الله ،فالموت مقبلا اعز واشرف من الادبار اذا كان الاجل لا يزيده فرارا او ينقصه شجاعة.
فالناس في خوف الفقر في فقر ومن خوف الذل في ذل
التسليم بما حدث هو الخطوة الاولى في التغلب على المصائب
قص علينا كارنيجي قصة من وحي الغرب الامريكي , لرجل اصيب بقرحة لا علاج لها حتى ان الاطباء ضربوا له موعدا اقصى للحياة وطلبوا منه ان يجهز كفنه , وفجأة اتخذ المريض قرارا مفاجئا بالاستمتاع بما تبقى له من الحياه وقد كان يحلم ان يجوب العالم شرقا وغربا وابتاع تذكرة سفر وارتاع اطباؤه ونصحوه بالعدول وانه سيلاقى حتفه بعرض البحر لكنه اجاب: كلا! لن يحدث فقد وعدت اسرتي ان ادفن في مقبرة العائلة وركب السفينة وهو يتمثل بشعر الخيام
انعم اقصى النعيم بما ملكت يداك""
قبل ان توسد اللحد فلا شيء هناك""
سوى تراب من تحتك وتراب من اعلاك""
فلا شراب ولا غناء ولا نهاية بعد ذاك""
وارسل لزوجته لقد شربت على ظهر السفينة كل انواع النبيذ, ودخنت السيجار واكلت الطيبات كلها وتمتعت بما لم لتمتع به في الماضي ووعم كارنيجي ان الرجل عاد صحيحا دون الام
نحن المسلمون نعتبر لا كما قال الخيام- ان الموت هو بداية الحياة في الاخرة .التي تجعل لنا ضوابطا فلا خمر ولا سيجار فالدنيا كلها طيبات الا ما حرم الله علينا من الخبائث.
ويكفينا قول نبينا صلى الله عليه وسلم " عجبا لامر المؤمن ان امره كله خير,وليس ذلك لاحد الا للمؤمن , ان اصابته سراء شكر فكان خيرا له وان اصابته ضراء صبر, فكان خيرا له.(رواه مسلم)
ثالثاً :ارض مما ليس منه بد.
يقول كارنيجي (رفضت مره ان اقبل امرا محتما واجهني وكنت احمق فاعترضت وثرت وغضبت وحولت الليالي الى جحيم من الارق وبعد عام من التعذيب النفسي امتثلت لهذا الامر الحتم الذي كنت اعلم من البدايه انه لا سبيل الى تغييره ورددت مع الشاعر " وايت هولتمان" قوله:
" ما اجمل ان اواجه الظلام والانواء والجوع"
"والمصائب والماسي واللوم والتقريع !"
"كما يواجهها الحيوان , وتواجهها من الاشجار الجذوع "
ونحن المسلمون لا نرى في هذا التبلد المطلوب مثلا اعلى لشفاء الانسان , ان التسليم افضل واين كلمات هويتمان من قوله تعالى " ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الاموال والانفس والثمرات وبشر الصابرين , الذين اذا اصابتهم مصيبة قالوا انا لله وانا اليه راجعون.
يقول الله تعالى :{والله غالب على امره ولكن اكثر الناس لا يعلمون} يوسف 21
{قل لن يصيبنا الا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون} التوبه 51 وقال ايضاً:
مرضى القلق لا يجزعون من احزان فحسب بل من احزان يتوقعونها مع ان اكثر المحذور لا يقع.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره وحتى يعلم ان ما اصابه لم يكن ليخطئه وما اخطاه لم يكن ليصيبه.(اخرجه الترمذي)
وفي قصة يعقوب خير مثال على الرضى بقضاء الله عند فقد يوسف قال : {فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون} يوسف 18
وبدل ان يعود يوسف فقد بعدها اخيه فقال { فصبر جميل عسى الله ان ياتيني بهم جميعا} يوسف 83
وظل يتشبث بالامل { اذهبوا فتحسسوا من يوسف واخيه ولا تياسوا من روح الله انه لا يياس من روح الله الا القوم الكافرون} يوسف 87
وهنا يذكر الغزالي دائرتين :
دائرة " ما منه بد" " ودائرة ما ليس منه بد"
ويقول : فالرجل اذا وقعت به مظلمة يملك ردها ويؤتى القدرة على ردها فان صبره عليها جريمة, ورضاه بها معصية, اما اذا عجز عن دفعها وجب عليه الصبر والتجلد.
واستشهد بشعر جميل لمحمد حمام :
قال صحبي : نراك تشكو جروحا اين لحن الرضا رخيما جميلا
قلت أمَا جروح نفسي فقد عودتها بلسم الرضى لتزولا
غير ان السكوت عن جرح قومي ليس الا التقاعس المرذولا
اذن عش في حدود يومك , فكر باسوأ النتائج ووطد نفسك على القبول وانقذ ما يمكن انقاذه وارض بما قسم الله لك تكن اغنى الناس
وللحديث بقية.