حكومتنا الرشيدة: أزمة... أم بداية انهياررر...؟!
من يتأمل الوضع في الاردن اليوم لا يرى إلا الأزمة وبداية الانهيار, إنها أزمة عميقة معقّدة متتابعة مثل موجات المحيط، في كل الميادين... في المؤسسة السياسية، والاقتصادية، والأمنية، والقضائية، والإعلامية، والثقافية، والتربوية، والاجتماعية , ناهيك عن الأزمة النفسية عند الكثيرين ممن فاق مستوى الإحباط لديهم مستوى الأمل, وبداية حالة الانهيار التام للمنظومة، بعد أن فعلت فيها كل آليات التخريب والفساد فعلها مِن تحويل وجهة المؤسسات من خدمة المصلحة العامة إلى خدمة المصلحة الخاصة، وضرب القيم, إلى وضع الشخص غير المناسب في المكان غير المناسب, وغياب الشفافية والتقييم, مرورا بالتكتم والمحاسبة... وصولا إلى عدم مكافأة المخلصين بل عقابهم, إنها نفس الآليات التي دمرت النظام الأمني وبقية أنظمة الدول التي شهدت ارضها ما يسمى الربيع العربي.
هذا ما نتج عنه أزمة عميقة كانت أزمة صورة، وأزمة معنويات العاملين في المنظومة، وأزمة علاقة مسمومة داخلها, وبينها وبين بقية مكونات المجتمع، خاصة أزمة أداء وفعالية، مما قد يفاقمها إلى أن يوصل هذه المنظومة إلى لحظة الانهيار, ما نشهده اليوم شيء مختلف تماما ، نحن لسنا أمام أزمة تدمير وإنما أمام أزمة خلق وبناء، فالرهان اليوم إما إصلاح المؤسسات التي حول الفساد والمحسوبية والواسطه وجهتها، وإما بناء مؤسسات أخرى مكانها, العملية موضع صراع حول كيف يتم الإصلاح ولمنفعة من، لأنه يوجد داخل كل مؤسسة أطراف لها مبادئ ومطامح ومصالح مختلفة , إنه صراع حاد وعنيف يمر بالمشادات اللفظية واختبار القوة عبر المظاهرات، ويكون أحيانا بالضرب تحت الحزام، وذلك لشعور كل الأطراف أنهم أمام مفترق طرق وأن المصير سيتقرر اما الآن, وربما يحتاج الى زمن طويل.
إنها نفس الإشكالية ونفس الصراعات في كل المؤسسات ونفس الرهان: الضغط الكافي لكي تأتي التشكيلات الجديدة متلائمة أكثر ما يمكن مع المصالح والمبادئ المعلنة وغير المعلنة, أما اليوم ونحن نبني مؤسسات الديمقراطية، فما زالت قوى التدمير نشطة عبر تواصل الفساد، وفي ظل تأخر المحاسبة وهي نفسها تبني مؤسساتها لمحاربة الحراكات الاصلاحية أو إجهاضها , إنها قاعدة في حياة كل المجتمعات: تجاور قوة الخلق مع قوة التدمير, الفرق يكمن في غلبة أزمة على أخرى, نحن نعيش في عالم صعب وفي ظروف صعبة وأصعب ما في هذا الظروف غياب المعطيات الصحيحة وكثرة المعطيات المغلوطة، ندرة التصورات الصحيحة وكثرة الأوهام التي تزيد في ضبابية الواقع, ومع هذا يجب أن نقرر أن ننخرط طول الوقت في الصراع السياسي والاجتماعي من أجل تشكيل معالم مستقبل نريده ضامنا لمبادئنا ومصالحنا، وأن نتحمل تبعات هذا الصراع، وهي أحيانا جد مكلفة، دون أن نكون دوما على ثقة أننا اخترنا الطريق الصحيح، أو أنه سيوصلنا إلى الهدف المنشود.
إنه وضع جربتُه كما جربتموه أعزائي القراء, ولا أدري كيف تشقون طريقكم في مثل هذا الضباب ولا كيف تختارون الوجهة عند تقاطع الطرق, أما بخصوصي فالبوصلة كانت ولا تزال الإجابة عن سؤالين رئيسيين يتوقف عليها أخذ القرار والشروع في تنفيذه، أيا كانت التبعات والأخطار, أمام هذا الوضع ما الذي تفرضه عليّ القيم من مواقف وتصرفات؟ أمام هذا الوضع ما الذي تفرضه عليّ المصلحة العامة من مواقف وتصرفات؟
يجب هنا أن أوضح رؤيتي للقيم، وأنه لا علاقة لها بالأخلاقية الجوفاء، التي تحايل بها الضعفاء على الأقوياء لضمان مصالح يعجزون عن فرضها، ولا تلك التي يتحايل بها الأقوياء على الضعفاء لمزيد من الاستغلال, القيم بالنسبة لي حصيلة تجربة الأجيال التي سبقتنا والتي تعلمت فيما يخص فضيلة الصدق مثلا, أن الكذب لا يجدي نفعا, فتأتينا بمثل هذه المقولات والتحذيرات "إذا كان الكذب ينجي فالصدق أنجى" أو " تستطيع أن تخدع بعض الناس بعض الوقت وتخدع بعض الناس كل الوقت ولكن لا تستطيع أن تخدع كل الناس كل الوقت.
يا لعجبي من الذين يتجاهلون هذا الكنز من التجارب والتحذيرات والإشارات إلى الطريق الصحيح، فيعيدون تصرفات فاشلة، لينتهوا في آخر المطاف إلى نفس الاستنتاجات التي وصل إليها كل من مروا قبلهم عبر القرون على وجه البسيطة, كم كان بمقدورهم توفير آلام عبثية, ومصائب جلبوها على أنفسهم وعلى غيرهم، لو انتبهوا إلى أن القيم هي أكبر واق من الخطأ وأضمن تأمين ضد الخطيئة، وأنها أجمل هدية يقدمها لنا من ابتلوا قبلنا بنعمة الحياة ونقمتها.
وبخصوص السؤال الثاني يجب أن نحدد ما المصلحة الجماعية وما موقع المصلحة الخاصة، قناعتي أن للمجتمعات ذكاءا جماعيا يجعلها تبحث عن تحقيق المصلحة الجماعية، وتتمثل تلك المصلحة أساسا في تصريف التعايش داخل المجتمع وبين المكونات بالقدر الأقل من العنف, كما تتمثل أيضا في البحث عن سبل المحافظة أطول وقت ممكن على السلم المدني، عبر التوزيع الأكثر عدلا لثلاثي( الاعتبار, والثروة, والسلطة).
الغباء ليس فقط في تجاهل كنز التجارب الذي كدسه الأوائل، وإنما أيضا في الاعتقاد بأنه يمكن استعمال المصلحة العامة غطاء للمصلحة الخاصة, إن من يعتقد ذلك يسيء تقدير حدة الذكاء الجماعي، وهو الذي يتسم بالقدرة على فرز دقيق وخاطف، بين من يخدمون هذه المصالح ومن يستخدمونها, ذكاء جماعي يحدد وحده هذه المصلحة ويبلور المنظرين والسياسيين الذين سيخدمون بوعي أو دون وعي، مشروعا يتجاوزهم.
من الذكاء الفردي الانتباه لحدة هذا الذكاء الجماعي والانخراط في مشروعه الأزلي, وآنذاك تتحقق المصلحة الخاصة عبر تحقيق المصلحة العامة, والحال أن الخبثاء لا يفعلون في آخر المطاف إلا ضرب مصالحهم وضرب المصلحة العامة , إن المصلحة الخاصة الحقيقية لكل الفاعلين اليوم هي في التساؤل أين هي المصلحة العامة التي يخطط لها الذكاء الجماعي؟ وكيف أضع نفسي في خدمتها متشبعا بكل الدروس التي تركتها الأجيال السابقة؟