والدي الغالي
حين استدعاني أستاذي إلى مكتبه أمس، ظننتُ أنه سيوبّخني على إهمالي في المادّة التي يدرّس، فأدائي رديء، وعلاماتي متواضعة، فوقفتُ أمامه خجِلاً مستعدّاً للاعتذار، حين وجدته يرّحبُ بي بموّدةٍ استثنائية ويدعوني للجلوس ليوجّه لي السّؤال العتيد الذي سئمته ... صدقاً سئمته : « أنت ابن فلان ؟ ما شاء الله، سلّم لي على الوالد، أرجوك ! « لينتهي الأمر بتوديعي عند الباب ...
وخرجتُ وأنا أدعو الله أن يكتفي الأستاذ بما فعل، ويستمر بمعاملتي مثل الطلبة الآخرين وقت احتساب العلامات النهائية ... إذ عشتُ هذه المواقف قبلاً، رغم أني لم أطلب يوماً من أيّ كان معاملة اسثنائية لأني ابنك، لكنّ الآخرين يعاملونني كأنّي طيفك ... متوقّعين أني سأهرع إليك شاكياً باكياً إن لم أحظَ منهم بتعاملٍ خاصّ، باختصار، أمقتُ أن أكون مستثنىً، أهذه مثالية مضحكة في زمن اقتناص الفرص؟ ربّما، لكنّي هكذا، وليس بمقدوري التّغير، وبصراحة أرجو أن تغفرها لي، كرهتُ أن لا أحدَ يراني ... هم يرونني عبرك ومن خلالك، وبتُّ أدركُ المقدّمات التي تقود إلى نتائج تصبّ في خدمتي ... لكن تشعرني أن ثمّة شيئاً ما غير صحيح يجري معي في كل مناسبة يعرف بها الآخرون أني ابنك، والجميع ، وعلى رأسهم أنت، يتوقّعون أني نسخة منك، ولستُ كذلك، وأنت أعلمُ بهذه الحقيقة التي تسبّب لك بؤساً شديداً !
أدركُ أني خذلتك غير مرّة لمّا عرفتَ أن ليست لديّ أيّ طموحات في العمل العام والمواقع الرّسمية مهما كانت الإغراءات، هل هي بلاهة أن أزهدَ في ذلك كله، ربّما، لكن سامحني إن كنتُ أقرأ الحياة بأسلوب مغاير، سامحني على اختلافي عنك، وأرجو أن تعاتبَ كل من يسهّل لي شؤون حياتي ابتداءً بالأستاذ إياه، وانتهاءً بصاحب « السّوبرماركت» الذي يصرّ على حمل المشتريات إلى السّيارة بدلاً عني كل مرّة وهو يحمّلني السّلامات والاحترامات لحضرتك !
إلهي كم أشعر بالإحباط والضّياع يا أبي، أقسم إني أكره النّظر إلى نفسي في المرآة، لأني لا أراني، بل أراكَ في ملامحي ... تماماً كما يفعل الآخرون !
أذكرُ أني كنتُ قد فكّرتُ بالانضمام إلى فرقة موسيقية مع بعض الرّفاق أيام المرحلة الثانوية وخلال إحدى العطل الصّيفية، ولعلّها كانت مبادرة ساذجة ورعناء آنذاك، وأذكر الدّهشة، إن لم تكن الصّدمة، التي شابت ملامحك وأنت تسألني مستنكراً: « موسيقى؟ يعني طبل وزمر؟ انتبه لدروسك أحسن « وانسحبتُ من أمامك وأنا أشعر أني كنتُ على وشك الانضمام إلى تنظيمٍ إرهابي ! «
والدي الحبيب،
تحرقني نظرة العتب في عينيك عندما أعتذر عن عدم مرافقتك إلى مجالس الرّجال، حسب تعبيرك، وإلى المناسبات التي تودّ فيها إيصال رسالة إلى الدّنيا مفادها أني الشّبل الذي أنجبه أسدُهم ... وأني امتدادك في عالم النّفوذ والسّلطة والحضور، أنت أيها العظيم، مؤثّر في موقعك ... اتركني أؤثّر، إن استطعت، من موقعي وتبعاً لإمكانياتي وطموحي، هذا الذي لا أعرف له أيّ ملامح حتى يومنا هذا ... فلم تسألني يوماً ماذا أريدُ أن أكون ... وبصدقٍ أعترف، لا أعرفُ أنا أيضاً، كل ما أعرفه أني أتوق إلى التّحرّر من ظلّك حولي ... كل ما أحلُم به هو أن تتركني أحلّق في الحياة بأجنحتي أنا، وكلّي ثقة أنك حولي ومعي، ساعدني على أن أجدَ نفسي في فضاءٍ غير فضائك، فهو، على رحابته، بات يشعرني بالاختناق !
التّوقيع :
ابنك المحبّ