بلاهة !
د. لانا مامكغ
ولأحقّق المزيد من الاستمتاع بالتجربة، قرّرت المشي في الشارع الجميل، حتى وصلت إلى مقعدٍ خشبي على الرصيف، وفيما كان الغروب قد حلّ حاملاً معه نسماتٍ رهيفة من الهواء المنعش، ابتسمت لنفسي نصف ابتسامة بسبب الخدّ المتورّم المخدّر إيّاه ... شاعرةً أنّها لحظة سعادةٍ حقيقية !
بعد قليل، ارتفعت في المنطقة أصواتٌ لأبواق سيارات، فقمتُ من مكاني لأرى أفواجاً من الشباب والصبايا وقد أخرجن أيديهن من النوافذ وهنّ يلوحنّ بباقاتٍ من الأزهار، في حين اعتلى الشباب تلك المركبات مطلقين حناجرهم بهتافاتٍ غير مفهومة ... في الوقت الذي علا فيه مكبّرالصوت لأحد رقباء السير الذي بدا أنّه كان يلاحق المجموعة ... فأشفقتُ عليه، أشفقتُ على من يسعى لكبح ذلك الكمّ من الفرح والعنفوان، والحمق الباهر !
وقفتُ أرقبُ المشهد ببهجةٍ غامرة ... في تلك اللحظة، فوجئتُ بزهرةٍ زنبق طويلة الساق تُرمى عفواً قربي، ودون تردّد، وجدتني أنحني لألتقطها، وأبدأ بالقفز والتلويح بها لموكب الفرح ... وفيما كنتُ ألوّحُ بيد، وأحمل البوظة باليد الأخرى، مرّ من أمامي رجلٌ أربعيني وقور، فلم أتوّقف عمّا أفعل، مقنعةً نفسي أنّ عتمةَ المساء لن تُعينه على التّمعن في المشهد الغريب لامرأةٍ في وضعي على الطريق العام ... لكنّي فوجئتُ بتراجعه بضعة خطواتٍ نحوي ليقف ويسألني بتهذيب شديد : « عفواً، مش حضرتك فلانة ؟ « ولم أجبْ ... بل راح تفكيري فوراً باتّجاه المشهد الذي أمامه ... تذكّرتُ خدّي المخدّر المتورّم، والبوظة التي خلتها تسيح بألوانها على (خِلْقتي )هنا وهناك ... وعود الزنبق المعوّج في يدي من كثرة التلويح ... فوجدتني أدعو الله بحرقة أن يخرج تنينٌ من وراء الشجرة القريبة فيلتهمني ... أو تخطفني فجأة أشعةٌ غامضة يطلقها وافدون في صحنٍ طائر ... أو أن ينطلق جرس المنبّه فأصحو من الكابوس !
لكنّ أيّاً من ذلك لم يحدث، فبقيتُ صامتةً أحدّق في الفراغ الذي بيني وبينه لأسمعه يقول أخيراً وهو يبتعد : « فرصة سعيدة ... ولمّا صحوت على عبارته، هممتُ بالّلحاق به لأقول : « عفواً، الحكاية أنّي كنتُ عند طبيب الأسنان ... « أمّا العبارة الأهمّ، والتي ما زلتُ أتمنّى حتى اليوم لو سمعها منّي : « أنا لا أفعل هذا دائماً، مهلاً، هي المرّة الأولى، أقسم بالله ...» بصراحة، من يومها لا يفارقني الشعور المرير بالندم والخجل والبلاهة !
الرأي