الجوع والإصلاح والاستبداد
أود في هذا المقال أن أخاطب العقول دون القلوب، وأن أذكّرَ ببعض البدهيات التي قد تخفى على غافل، لكنها لاتخفى على عاقلٍ يريد الاصلاح ما استطاع.
قد يسألُ سائلٌ: كيف لنا أن نخلط بين الجوع والاصلاح والاستبداد ؟ والجواب كما أراه: إن الجوع يكمنُ في الخراب والفساد، ونفي الجوع يكمن في الاصلاح الحقيقي، لا الإصلاح المُخدّر الذي يعتمد على شراء الزمن، وتلهية العامة بوعود ليست من الاصلاح في شيء !
بداية لابد من الاعتراف الفعلي بجملةٍ من الأشياء:
أولها: إن علينا أن لانتوقع أن طريق الإصلاح معبدة بالورود، وأن لانتوقع الراحة أبداً من الاصلاح الحقيقي، مهما كان بسيطاً.
وثانيها: ولأننا عندما نتحدث عن الاصلاح، فإننا نعترف ضمناً وصراحة بأن واقعنا غير صالح، وفيه من الخراب والفساد ما يكفي لدفعنا كي ندق ناقوس الخطر، ويدفعنا في الوقت ذاته إلى تخليص هذا الواقع وتحريره من الخراب والفساد الذي يعشعش فيه.
وثالثها: علينا أن نسأل أنفسنا مالذي ينبغي فعله بالواقع بعد تحريره من قبضة الفساد !
ورابعها: لابد من أن نتذكّر بأن الفشلَ في الاصلاح يقودُ إلى الاستبداد، والاستبدادُ بدوره يقودُ إلى مزيد من الخراب والفشل والفساد والضياع معاً !
لقد تعلمنا في ما مضى من سنوات أحلام اليقظة أن علينا أن نُصلح الكثير، لكن علينا أن لانُسرف بالإحلام مهما كانت وردية، لأن هناك من يعمل ليل نهار من اجل أن يحبط أحلامنا. وعلينا أن لا نوغل بالاصلاح كي لانقع في المحذور. فعند انتشار الخلايا السرطانية في جسد المريض، لايقوم الطبيب باستئصال كل ما يقع تحت عينيه من خراب، بل يكون انتقائياً حول أولويات عمله. وقد قيل بإن محاولة جعل السمكة تطير خلال فترةٍ قصيرة لهو ضربٌ من الجنون في كل الأحوال !
إن المستحيل قد يتحقق، لكنه يحتاج إلى وقتٍ كافٍ كي يتحقق. وفي كثيرٍ من الأحوال، لابد لمن ينشدَ الإصلاح أن يتنبه إلى حقيقيةٍ حياتيةٍ مُعاشة، وهي حقيقة مُرّة، ومفادها أن الناس بشكل عام تحب الجوع مع الراحة، وتحب الراحة مع الخطأ، وربما يصل الحد عند بعض الناس بأن يحب الراحة مع الذل أو الخطيئة. ومعظم الناس لا يحب المشي على السراط المستقيم تحت لسع السياط وبؤس الجوع !
مقابل هذه الصورة البائسة، لابد أن يدرك من بيده الأمر أن المبادرة الذاتية إلى الإصلاح هي أنفعُ وأجدى من الاصلاح الذي يأتي طلبه من الخارج، أي أن أقوم بالإصلاح من تلقاء ذاتي خيرٌ من أن يطلب مني جاري أن أقوم بذلك، ولو من قبيل احترام الذات. ولابد أن ندرك حقيقة أخرى، قد تكون أشدّ مرارة من سابقتها، وهي أن أكثر ما يحتاج اصلاحاً هو ثقافة الناس الفاسدة، بما في ذلك بعض عاداتهم وتقاليدهم التي نحسب أنها قليلة الأثر، لكنها مدمرة في الأمد الطويل.
إن من الصعب علينا أن نكسر العرف والتقليد والعادة، حتى ولو كانت فاسدة، لأنها تمثل مؤسسات اجتماعية راسخة قبِلَ بها الناس مع مرور الزمن. ولذلك فإن عامة الناس قد تعاني من محاولة تغيير مسار حياتها. فإذا كان التغيير صعباً علينا، فكيف إذا أردنا أن نغيّر حياة الآخرين. وكي نسهّلَ على أنفسنا مهمة الإصلاح، فإن علينا أن نقنع الناس باستبدال السيء بالجيد، وإلا نكون قد فشلنا. وقد قيل إن روح التطور والتحسين ليست دائماً روحاً تحررية، فربما هي محاولة لتحسين أوضاع شعب غير مستعدٍ للإصلاح. لكن ما يؤلم حقاً أن التخلي عن محاولة اصلاح المجتمع والدولة هي تخلٍ عن مسؤولياتنا وظننا بإنفسنا أننا أهلٌ للمسؤولية والإصلاح، وإنكارٌ لحقيقة أننا محسوبون على فئة الأحرار من الناس العقلاء.
في جميع الأحوال لابد للخطاب الرسمي أن يُقلعَ عن الاستمرار بعاداته السيئة، وترويج القول بأن كل شيء على مايرام، لأن هذه العادات سيئة، وقد تكون قاتلة في بعض الأحيان، خاصة إذا ما انطبق علينا القول الشعبي ( ... إن الماء يجري من تحت أرجلنا دون أن نعلم بذلك ... ). فلو كان كل شيء على ما يرام لما وصلنا إلى ما نحن فيه من بؤس وضياع. ويحضرني في هذا المجال ما قاله أحد الفلاسفة عن الوهم الذي يسوقه البعض علينا ( ... إن الحب والعمل والمصلحة والدين والوطنية ليست إلا ظلالاً لكلمات جوفاء عندما يكون الانسان جائعاً. فليس للمعدة الخاوية آذان، وما يهمنا هو أن تكون مليئة، وإلا فإن صاحبها قد يتفجر غضباً، ويكفر بوطنه وبكل شعاراته التي لاتعنيه إلا بقدر ما يسد به جوعه. ولو خيّرنا إنساناً جائعاً بين شطيرة من الفلافل الرديء وبين وطنه لاختار شطيرة الفلافل على تعسها ورخصها !
أشعرُ بالألم والحزن معاً عندما أرى بأن النفاق قد أصبح رذيلة مطابقة للذوق العام. والمنافق، بطبعه اللئيم، يُظهِر مالا يُبطِن، وهو يرى بعينيه آلام الناس وجوعهم وحرمانهم وبؤسهم، لكنه يتغنى بها على أنها نعمٌ من الجنة، ويقنع من حوله من المترفين بأن جوعَ هؤلاء بطرٌ، وحرمانهم وفرة غلال. فلقد آن الأوان أن نُقلعَ عن كل ذلك، وأن ننبذ هؤلاء الجهلة الذين أوردونا موارد السوء والضلال. وكما قال يسوع عليه السلام: (... إذا قاد الأعمى أعمى، فإن الأثنين سيقعان في الحفرة ...). والجهلُ إلى هذا الحد يحرمنا من الحكمة التي نحتاجها لرؤية الحقيقة.
drbanihani@gmail.com