jo24_banner
jo24_banner

اقتصادات المشاركة (Economics of Partnership) نحو نظرية جديدة

د. عبدالرزاق بني هاني
جو 24 :


أستهل قولي بجملة جميلة، وردت في التوراة والإنجيل والقرآن "الحمد لله وحده لا شريك له". أقولها وأصِرُّ عليها لألف سبب وسبب، يأتي في أدناها اعتقادي اليقيني بأن جائحة الكورونا قد جاءت وكأنها رصاصة انطلقت من الغيب، قتلت من قتلت وجرحت من جرحت، لكنها أحْيَت بإذن الله كثيراً من البشر. فقد كان معظم البشر، فردهم وجماعتهم، حاكمهم ومحكومهم، قبل الجائحة، في غيابات السجون العقلية والنفسية التي وضعوا أنفسهم فيها طوعاً وكراهية. ومنهم من ظن بأن ثروته لن تبيد أبداً، وأن عزه وكنفه منيع لا يُرام، ومنهم من ظن بأن الفقر قَدَرٌ، وأن الغنى قَدَرٌ، إلى أن جاء الوباء ليضع حداً لكل واحد منا، وبانت سوءة الدول وحكوماتها، وبانت أنانية البشر إلى حدٍ لم يتوقعه أحد.

تذكرت، خلال أيام الحظر، كتاباً كان الله تعالى قد منَّ عليّ بصياغته على عجالة، تحت عنوان اقتصاديات الإيمان، ذكرت فيه كيف أن المشكلة الاقتصادية المعاصرة، وأساسها مشكلة الندرة، كما يراها البشر المعاصرون لا يمكن أن تنتهي حتى ينتهي وجود البشر أنفسهم على وجه البسيطة، وقد أتيت على أسباب أخذتها من التوراة والإنجيل والقرآن، تركز على أنانية البشر وجزعهم وظلمهم لأنفسهم، والاستكبار الذي يمارسه بعض الحكام على مواطنيهم وعلمائهم، على حد سواء. وذكرت في كتاب آخر، حول اقتصاديات الموارد والبيئة، حقائق علمية موثقة، بأنه لو وصل استهلاك كل فرد من البشر، من السلع الاستهلاكية، كما يستهلك الفرد السويدي لاحتجنا إلى أربع كراتٍ أرضية كي تسد حاجات ورغبات البشر، ولو استهلك كل فرد من البشر، من السلع الاستهلاكية، كما يستهلك الفرد الأمريكي لما تمكنت الأرض من دعم وجود أكثر من مليارين من البشر.

جاءت جائحة الكورونا في خضم ما يجري من صراعات، بالسر والعلن، بين الدول والأمم، وكلها حول الهيمنة والموارد الاقتصادية، والرغبة بترسيخ السيادة لبعضها على الآخرين، وجاءت في مركز الصراع الفكري وأقوال علماء السياسة والاستراتيجيين وأصحاب المصالح الكبرى، بأن العالم سيشهدُ تحولاً هيكلياً في التراتبية الدولية (International Hierarchy)، وانقلاباً في دورة الهيمنة (Hegemonic Cycle)، والتدافع الفكري البائن نحو الخروج من صندوق التفكير التقليدي، الذي أقفل على عقول علماء الاقتصاد والاجتماع، خلال السنوات السبعين الماضية، وترسخ بعد استبداد العقل الأنجلوسكسوني المتوحش في العالم، واجتياح الأمريكيين للعراق.

على الرغم من اعتراف علماء الاقتصاد وتاريخ الفكر الاقتصادي بوجود ما يُسمى المدرسة الميركينتالية، التي تحولت خلال القرنين الماضيين إلى المدرسة الرأسمالية الحديثة، لكني أؤكد على بقاء مفهوم الميركينتالية الكلاسيكية، لكن بقشرة الرأسمالية، وليس أدل على ذلك من سلوك الولايات المتحدة، بشكل خاص، والنظام الأنجلوسكسوني، بشكل عام، في مجال ترسيخ الهيمنة الاقتصادية، والسيادة الاستراتيجية، ومراكمة الثروة من أجل الثروة، على المستوى العالمي. ومن وجهة نظري الشخصية وصلت الميركينتالية الرأسمالية إلى قمة قوتها وجبروتها الاقتصادي، وتبديدها للموارد في الحروب والاستهلاك التظاهري والتبذير، وتخريبها لبيئة الأرض، فلم يعد هناك إمكانية لتقدمها إلا بواسطة الحروب. لكن حروب هذه الأيام ليست تقليدية، لأن الأسلحة التي قد تستخدمها القوى الكبرى ضد بعضها البعض في الحروب لن تكون تقليدية

الصادم في الأحداث التي توالت منذ انتهاء الثورة الثقافية(Cultural Revolution)، التي قادها الزعيم الصيني الراحل ماوتسي تونغ، من منتصف ستينيات القرن الماضي وحتى منتصف السبعينيات منه، أن العالم شاهد ببطء بروز ميركينتالية جديدة (Neo-Mercantilism)، لكنها بثوب شيوعي بحت. وهنا تكمن الصدمة الفكرية، التي لم يستطيع علماء الاقتصاد الحديث أن يفسروها حتى هذه اللحظة، إلا في إطار سياسي. وفي ذلك أقول بأن الإنسان يبقى إنسان، بغرائزه وشهواته ورغائبه وحاجاته. ولا يُستثنى من ذلك الشيوعي، أو الرأسمالي، الأسود أو الأبيض.

السؤال المهم الذي لابد أن نطرحه في هذا السياق: كيف يمكن لدولة نامية فقيرة بالظاهر، غنية بالباطن، أن تنهض وتتحرر من قيود الصراع والاستقطاب الدولي؟

لابد من الاعتراف بحقيقة غائبة أو مغيبة، في الدولة الحديثة النامية، العربية وغير العربية، مفادها أن السواد الأعظم من البشر الذين يعيشون في مثل هذه الدول ليسوا إلا مدخلات إنتاج نكرة. ليس لهم قيمة بشرية أو اجتماعية أو علمية. وهم بالتالي ليسوا شركاء في صناعة القرار الاقتصادي التنموي. وقد تراقى هذا الوضع، وترسخ، بسبب الترتيبات والبُنى السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي صيغت وسادت، قبل حقبة الاستعمار المباشر الفعلي، وما بعد الاستقلال الشكلي، كي تحقق أهدافاً مُحددة. ما يعني بأن السواد الأعظم من البشر، في السواد الأعظم من هذه الدول، ليسوا شركاء في أوطانهم، بل هم جزء من عناصر الإنتاج الثلاثة الأولى: الأرض، والعمالة، وجزء بسيط من رأس المال الحقيقي. لكنهم ليسوا جزءاً من إدارة، وهم ضحية تخطيط السلطة الخاطئ في كل الأحيان. والشواهد على ذلك كثيرة.

إذا اعترفنا بالحقيقة الغائبة، المُبينة أعلاه، واعترفت بها السلطة الحاكمة، يغدو الاستمرار في المشروع الجديد أمراً لازماً، ومطلوباً بإلحاح. فقد أصبحت الحاجة إليه مُلحة، أكثر من ذي قبل.

يأتي هذا المشروع مُصاغاً بنظرة غير تقليدية، جديدة، عنوانها اقتصاديات المشاركة. لا يترتب عليها أية كلفة سياسية على أنظمة الحكم الراهنة، وعلى العكس من ذلك ستؤدي على تقوية بُناهم السلطوية بشكل أقوى، لكن بلمسة إنسانية مشروعة. وستغدو شرعيتهم حكمهم أكثر تجذراً وقوة.

ما هي اقتصاديات المشاركة، وافتراضاتها ومبادئها الأولية، وما هي النتائج المرجوة منها؟

تتمركز الفرضية الأولى لاقتصاديات المشاركة على فكرة أساسية بسيطة، لا يمكن أن ينجح المشروع من غيرها، يقول ملخصها بأنه لابد من تحويل الكتلة البشرية في الدولة الحديثة، من مجرد قوى عاملة نكرة، إلى قوى عاملة مشاركة في مُلكية الدولة ومؤسساتها، ليس بالمعنى السياسي، بل بالمعنى الإنتاجي - الاقتصادي - الاجتماعي. وهنا لابد من التوضيح.

قام كثيرٌ من علماء الاقتصاد السلوكي (Behavior Economics)[1]بمراقبة مئات الآلاف من العمال بالمصانع، في أكثر من مئة دولة، وحاضرة صناعية، امتدت من أمريكيا الجنوبية، مروراً بأمريكيا الشمالية، ثم أوروبا، الشرقية والغربية، وروسيا والصين، واليابان، وإندونيسيا، وانتهاءً بعدد من الدول العربية والأفريقية غير الغربية، رصدوا خلالها سلوك العمال على خطوط الإنتاج، وفي فترة استراحات العمال، وسلوك الموظفين الإداريين، وتعاملهم مع بعضهم بعضاً في بيئات العمل، وحللوا مفهوم السمعة التنظيمية لدى العاملين. فكانت النتائج متباينة وصادمة.

المؤشرات في الجدول أدناه هي تجميعية تراكمية لمتوسطات مُعدلة سنوياً، محسوبة من عشرة.

مؤشر

الجهة

الالتزام

الوقت

الالتزام

بالتعليمات

نوعية

المُنتج

الشعور

بالغربة

مؤشر

الإنتاجية

الحافز

المادي

الحافز

المعنوي

الأمريكي الشمالي

9

9

9

10

10

10

6

الأمريكي الجنوبي

6

6

5

8

6

10

4

الأوروبي

9

9

9

4

10

8

10

الياباني

10

10

10

1

10

3

10

الصيني

10

10

5

8

10

10

4

الروسي

7

7

7

8

7

10

3

العربي

5

4

4

9

4

10

2

الأفريقي غير

العربي

5

4

3

3

4

9

5

لابد من فهم اتجاه المؤشرات قبل الخوض في تحليل النتائج.

نلاحظ بأن العامل (الموظف) الياباني قد حاز على أعلى علامة، من حيث الالتزام بوقت العمل والتعليمات، ونوعية المنتج، ومؤشر الإنتاجية، والحافز المعنوي. لكنه حصل على أقل علامة من حيث مؤشر الغربة (حسب التعريف الماركسي)، والحافز المادي. وقد استنتج باحثو الاقتصاد السلوكي بأن العامل (الموظف) الياباني يعمل انطلاقاً من احساسه بأن المُنشأة التي يعمل بها هي مُلكه، وعليه أن يرعاها ويحافظ عليها من أجل منفعته ورفاء الآخرين.

أما المؤشرات المتعلقة بالعامل (الموظف) العربي فقد تشابهت إلى حدٍ كبير مع مؤشرات العامل (الموظف) الأفريقي، من حيث انخفاض مؤشرات الالتزام بالوقت والتعليمات ونوعية المنتج، وارتفاع مؤشري الحافز المعنوي والغربة، وانخفاض مؤشر الحافز المعنوي.

يقول الباحثون حول المؤشرات المتقاربة للعرب والأفارقة، مع اختلاف البيئتين التي تعيش فيهما كل كتلة سكانية، أن العربي لا يشعر بأن الدولة التي يعيشُ فيها وكيانها الجغرافي، ملكاً له، لأنها مُلكاً للحاكم. أما الأفريقي فهو يعيش على مساحات سكانية تتقاطع مع بيئات برية (wild)، وبالتالي يطغى حد الكفاف (subsistence level) على نمط الإنتاج الأفريقي، ويبتعد الأفريقي بشكل عام عن حياة المؤسسات الحضرية. وما يعزز هذا الاستنتاج ما أشار إليه بعض الباحثين، ومنهم الكاتب (المهندس) الياباني نوبوكي نوتهارا، حول شعور العربي بالغربة وعدم الانغماس الفعلي في مفهوم المواطنة في الدولة التي يحمل جنسيتها، وتدينه الشديد وفساده الأشد! فيعود السبب في ذلك، حسب رأي الباحثين، إلى أن الواسطة والمحسوبية، ورأس المال الاجتماعي الوهمي الذي تبنيه السلطة السياسية بواسطة إعطاء الرشوة إلى جماعات الضغط القبيلة والمؤيدين للنظام، وتخصيص المناصب العامة للمولاة على حساب المعارضة المتهالكة أصلاً، تدل إلى حدٍ كبير على الشك بشرعية النظام. فيغدو المواطن في مثل هذه البيئة الموبوءة مُهمِلاً بكل واجباته الوطنية، وواجبات العمل، وتدني حجم العمل بإخلاص من أجل الصالح العام.

يقول توماس كولي بأن مثلاً شعبياً واحداً يلخص حياة معظم البشر، إذ يقول " لا تقم بحساب عدد أيام الشهر الذي ليس لك فيه أجراً (راتباً) ". ويُضيف بأنني لم أسمع بهذا المثل إلا في الدولة العربية، من ضفاف الأطلسي وحتى ضفاف الخليج في أقصى الشرق العربي. وفي مثل هذه الدولة يغطى الأمني على السياسي والاقتصادي والاجتماعي والبيئي. ويغدو البشر وكأنهم أعداء، متنافسون بعداوة على الموارد، وفرص العمل، والجاه.

تنادي نظرية اقتصاديات المشاركة بضرورة تحول الفرد الإنسان هيكلياً، من مجرد فرد منتج، يعيش كما يعيش المحاربون المرتزقة من أجل المال والمال فقط، إلى إنسان يقدس الوقت، مُحباً للنظام والإنتاج والآخرين باعتبار ذلك واجباً دينياً وأخلاقياً، وليس من أجل مصلحة فردية.



[1] - شارك الكاتب في بعض الدراسات الميدانية في عددٍ من الولايات المتحدة، وجنوب أفريقيا وبعض الدول العربية.

 
تابعو الأردن 24 على google news