شرعية الفرد والجماعة والدولة
د. عبدالرزاق بني هاني
جو 24 :
شرفني الدكتور شاكر العدوان، أستاذ الإدارة العامة، في جامعة اليرموك، وطالبته النجيبة ساجدة إبراهيم الشامي، بمراجعة وتقديم كتابهما الجديد، الذي يحمل اسماً لافتاً "السمعة التنظيمية في القطاع العام: مساهمة نظرية وتجارب عالمية". وقد جذبني الكتاب، كأنهُ حوامةُ ماءٍ في بحر متلاطمٍ من الأفكار والحقائق والنظريات، التي تعانق ضمير كل حيّ! ومن قبيل الأمانة العلمية، فإن الكتاب لم يحتو ِ فكراً عاطفياً مثالياً، أو مجموعة من الأمنيات الخيالية التي لا يُمكن تحقيقها، بل احتوى فكراً نظرياً وتطبيقياً، قابلاً للتنفيذ، بأقل كلفةٍ، وأعلى نتائجَ إيجابية، يتشوَّفُ لها أيُ مجتمع ٍ أو اقتصادٍ، أو نظام ٍ سياسي عاقل. فسمعة اليوم، كما يقول أحد العلماء، هي ثمارُ الغد، الحلوة منها أو المرة. لكن المذاق والفائدة يعتمدان على ماهية السمعة التي يبنيها الفرد أو النظام لنفسه. والسمعة، كما يقول المؤلفان، هي أصولٌ أساسية في البناء الذي تختاره الدولة، عن وعي مسبق، وتخطيط واعٍ. وهذه الأصول لا تقل أهمية عن الأصول البشرية، المُتجسدة في ما يُسميه الاقتصاديون رأس المال البشري، ولا يقل أهمية عن رأس المال المادي، الذي بدونه، لا يوجدُ اقتصادٍ ذي قيمة تذكر. فهل يعقل أن يختار الفرد، أو نظام أية دولة، سمعة تنظيمية غير حميدة؟!
اتفق البشر، منذ اللحظات الأولى لتواجدهم على وجه البسيطة، بأن الحياةُ تغدو مستحيلة من غير مؤسسات. الجميل والغريب في أمر المؤسسات أنها قيودٌ يصنعُها البشر، كي يُكبّلوا أنفسهم بها كرهاً وطواعية، من أجل أن تستقيمَ حيواتهم. وهي أمانة عظيمة مقدسة، أزلية، كأزلية الوجود. فقد أمرَ الخالقُ سبحانه وتعالى آدم عليه السلام، بأن يتقيد بالمؤسسات عندما نهاهُ عن الاقتراب من الشجرة. وقد تمثل الشجرة برأيي مجموعة الأوامر والنواهي التي يُسعدُ بواسطتها الإنسان. والمؤسسات التي أقصدها هنا هي التي ما انفككتُ عن الحديث عنها خلال السنوات الأربعين الماضية، واضطرتني إلى إفْرادِ كتاب ٍ خاص بها جاء تحت اسم "الاقتصاد المؤسسي".. فحيثما لا تتوافر مؤسسات حميدة يتقلصُ البشرُ، في الحيز الجغرافي الذين يسكنوه، إلى مجموعةٍ من المخلوقات الدنيا، فحسب، عبيد، أنانيون، مستغِلون، قتلة، ... تكون السمعة الطيبة آخر ما يُشغل لهم بالاً.
تأتي المؤسسات الحميدة على نوعين: مؤسسات حميدة شكلية (formal) ومؤسسات حميدة لا شكلية (informal). يتسنمُ الدستورُ ذروة المؤسسات الشكلية الحميدة، باعتباره عِقداً اجتماعياً راقياً يضبط علاقة الحاكم والمحكوم. فليس فيه هوى ولا تعسف ولا إيماءات استبدادية. ولا شرعية دينية أو تاريخية لأي من البشر من غير مؤسسات تضبط علاقة الحاكم والمحكوم، حتى أن الرسول، صلى الله عليه وسلم، قد أقر بأنه بشرٌ كباقي البشر، عندما قال "إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد". ولأنه رسولٌ من البشر وللبشر فهو معصومٌ عن أي خطأ يتعلق بالرسالة والقرآن والعقيدة. لكنه أخطأ في اجتهادٍ يتعلقُ برأي حول نشاطٍ دنيوي عادي. فكيف به، بلغتنا المعاصرة، حول ما يتعلق بسياسة مالية أو نقدية! ومن بعده، صلى الله عليه وسلم، لم يعد هناك معنى حقيقياً وعملياتياً، للشرعية الدينية أو التاريخية لأي شخص، مهما كان، إلا بمقدار إخلاصه وعطاءه، وعطاءه فقط، للأمة والشعب، ثم لباقي البشر. وكل من جاء من بعده كانوا بشراً عاديين، لا يعتلي شريفٌ منهم على بقية البشر بحجة أنه صحابيٌ أو قريبٌ من الرسول صلى الله عليه وسلم. فقد كان ديدنهم العدل، وهدفهم إرضاء الله وخدمة العباد، فكانوا القدوة لمن حولهم.
القوانين العادلة، التي تضبط النشاط الاقتصادي والسياسي والاجتماعي للبشر، والقرارات الحكيمة التي تصب في مصلحة الأمة، هي مؤسسات حميدة.
أما المؤسسات الحميدة اللاشكلية فهي مجموعة الأعراف والقوانين والتقاليد المُشجعة للإنتاج وحب الوطن، وتقديم مصلحة الجماعة على مصلحة الفرد أو القبيلة أو العشيرة. وبخلاف ذلك فإننا سنراوح مكان الهزيمة المعنوية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية، التي مُنينا بها منذ منتصف القرن التاسع عشر.
المُذهل في كتاب السمعة التنظيمية في القطاع العام، للعدوان والشامي، أنه عالج أمرَ المؤسساتِ بلغة عملياتية متماثلة مع ما يقوله معشر الاقتصاديين المؤسسيين. فالسمعة التنظيمية هي مؤسسة تجمع بين النوعين: الشكلية واللاشكلية. وهي، أي السمعة التنظيمية، ناتجة عن فعلٍ مؤسسي حقيقي بامتياز. فعندما تكون كافة الأطراف المعنية (stakeholders) بعمل أية جهة: دائرة، أو وزارة، من دوائر الحكومة أو وزارات السلطة التنفيذية، راضية عن أداء هذه الجهة أو الدائرة أو الوزارة، فقد حققت هذه الجهة أو الدائرة أو الوزارة سمعة تنظيمية راقية، تستحق عليها الإطراء والدعم. وهذ السمعة، بالضرورة، كانت قد نتجت عن فعلٍ مؤسسي راقٍ متعالٍ.
يذكر العدوان والشامي، في كتابهما، تجارب بعض الدول والشركات، التي حققت سمعة تنظيمية عالمية، جاءت بالمرتبة الأولى، ومنها دول مثل سويسرا، وشركات مثل رولكس. فيشرح ويحلل المؤلفان جملة العوامل التي ساهمت في دفع سويسرا، ورولكس، مثلاً، إلى الصدارة. ويأتيان على عوامل مثل حسن إدارة الموارد، وعدالة الضرائب، وانعدام الفساد، وحكم الشورى أو الديموقراطية. وكنت أتساءل أثناء القراءة: هل البشر في دول ٍ مثل سويسرا، وهل العمال في شركة مثل رولكس، مختلفين في أشكالهم أو لحمهم أو دمهم وعظمهم عن البشر عندما، وهل يستحقوا الكرامة أكثر مما نستحق. فكانت الإجابة المنطقية التي يرسلها عقلي تقول على الدوم بأن حكم المؤسسات يجترح نوعين من المعجزات: الأول) معجزات تنهض بالأمة إذا كانت هذه المؤسسات تقدس إنسانية البشر وتضع العقل على القمة، وتُعلي من ثقافة الإنتاج، وتدفع الضمير الحي إلى العلياء... أما الثاني) فهو معجزات هادمة، تأتمر للأساطير والبساطير، والاستبداد، وتعتبر الخوف مصدراً للسلطات، وتقلص البشر إلى مجرد قطعان ٍ من المخلوقات، تأتمر بمن يدعي أن شرعيته جاءت من السماء..
الإسلام دين المؤسسات، ودين السمعة التنظيمية، بامتياز. فلا فرق بين عربي على عجمي إلا بمقدار العطاء والإنتاج المُفيد، والسمعة الطيبة. والله يهدم الدولة الظالمة لأنها من غير مؤسسات حميدة، وينصر الدولة الكافرة لأنها تتمسك بالمؤسسات الحميدة. وفي الحديث "رحم الله امرءاً جبّ الغيبة عن نفسه"... ولا تُجَبّ الغيبة إلا بسمعة طيبة!
أما آن الأوان أن يترجل العقل المُعلّق على أعواد المشانق؟.. أما آن الأوان كي نبني سمعة تنظيمية عطرة، ونصنع دولة الإنتاج، لا دولة التبعية والخداع والبؤس!.. فالسمعة التنظيمية لشركة مثل رولكس أفضل عند كل البشر من سمعة دولتنا بكل منظماتها، الخاصة والعامة!