أما آن للعقل المشنوق أن يترجل - الجزء (2)
د. عبدالرزاق بني هاني
جو 24 :
قدمتُ بين يَدَي الموضوع، في الجزء الأول من هذا المقال المطوّل، ما يُمكن أن يحدث إذا أهملنا الاستعداد المستمر واليقظ للتصدي لحرب ٍ أو جائحةٍ قد تهدد وجودنا برمته. وقلت بأن العلمَ يُثبت يوماً بعد يوم أن الطبيعة التي خلقها الله تعالى تُخبئ من الجوائح أو المصائب الممكنة، ما هو أقوى وأكثر فتكاً من الكورونا بآلاف الأضعاف. ولو أردت أن أهوّن على نفسي وعلى القارئ ما أقصده أقول بأن خطأً بسيطاً لم يكن في الحسبان قد يؤدي إلى اندلاع حرب ٍ نووية بين قوتين أو أكثر من القوى النووية في العالم. وحول ذلك أقول بأن حرباً نووية كادت أن تندلع قبل عدة أشهر بين الباكستان والهند حول كشمير، لولا تدخل القوى الأعظم من وراء الكواليس. وكادت أن تحدث حرباً طاحنة في منطقتنا قبل ما يزيد على سنة بقليل بسبب التوتر بين تركيا وروسيا حول الوضع في سوريا. ومن منا يأمن ألا تقوم القوى الصهيونية في المنطقة بعمل سري ما، يؤدي إلى انتشار الأمراض والأوبئة القاتلة على نطاقٍ واسع في منطقتنا. وحال حدوث ذلك لن نجد من يقف معنا، ولن ينفع الندم!!
الحكومة ممثلة بمؤسساتها، والمجتمع ممثلاً بقوى النخبة الفكرية والسياسية فيه، كلٌ حسب موقعه ودائرة تأثيره، مطالب أكثر من أي وقت مضى كي يفكر ويخطط بنمطٍ استراتيجي طويل الأمد، ولو اجتهاداً، كي نضمن بأن البلاد مستعدة لتلقي أية ضربة، من عدو ٍ بشري، أو من إحدى الكوارث الكامنة أو التي تخبئها الطبيعة.
لابد لي أن أقدم بين يدي مفهوم التخطيط الاستراتيجي، من وجهة نظري الشخصية البحتة، بمبدأ رصدته من قراءتي لتاريخ العالم والأحداث الكبرى خلال القرن المنصرم، وكيف تبلور على المستوى العالمي خلال هذه الفترة، ومفاده بأن المستبدين، ومعهم الذين يعانون من اختلالات عقلية أو تشوهات نفسية من الحكام، عادة ما يستغلوا الجوائح والحروب والأحداث الجسام في سبيل تعزيز نفوذهم على الأرض. والمقصود هنا نفوذهم على المجتمعات التي يسيطرون عليها، أو تعزيز نفوذهم في المحيط الجيوسياسي الذي يعنيهم. فقد برهنت أحداث الحرب العالمية الأولي والثانية، والحرب الباردة، وانتهاء الحرب الباردة، وأحداث أيلول (2001) في الولايات المتحدة، كيف جيّر المستبدون وأصحاب الاختلالات العقلية الأحداث في تعزيز النفوذ المقصود. فقد أدت نتائج الحرب العالمية الأولى إلى صعود النازيين في ألمانيا، واستبدادها هناك، وتدمير هياكل لدول بذاتها، وصعود الشيوعية في روسيا واستبدادها في مناطق وسط آسيا التي كانت مسيطرة عليها منذ أيام الإمبراطورة كاترينا، ثم إلى الكساد العظيم (Great Depression) الذي اجتاح الاقتصاد العالمي، منذ العام (1929) وحتى نهاية العام (1934). وقد قيل لي من أحد الأساتذة الذين درسوني في علم الاقتصاد بأن بعض العائلات الأمريكية في فترة الكساد العظيم لم يكن لديها ما يكفي من المال إلا لشراء بيضة واحدة ورغيفين من الخبز، يقتات عليها خمسة أو ستة أفراد. ويُجمع المؤرخون وبعض علماء الفكر الاقتصادي بأن الكساد العظيم كان مقدمة لنتيجة حتمية، هي الحرب العالمية الثانية، والويلات التي صاحبتها، على مستوى العالم. ويروي مدونو تاريخ ما بعد الحرب الثانية كيف نكل جوزيف ستالين بمعارضيه في الاتحاد السوفياتي وخارجه، وكيف استبد بشعوب بأكملها في أواسط آسيا.
ونرى من قراءة أحداث الحرب الباردة كيف استغل المستبدون، في الشرق والغرب، الأوضاع المتأزمة داخل المجتمعات كي يضربوا المعارضين وينكلوا بهم. فكانت الأنظمة التابعة للعالم الشيوعي تنكل بكل من كانت لديه نوايا أو ميول رأسمالية، وليس أدل على ذلك مما جرى في مصر وسوريا والعراق. أما الأنظمة التي سارت في فلك الغرب، فقد نكلت بمن كانت لديه نوايا أو ميول شيوعية أو اشتراكية، وليس أدل على ذلك مما جرى في بقية الأقطار العربية.
بعد انتهاء الحرب الباردة دفع كل العرب، وبخاصة الفلسطينيين ثمن التقارب بين الشرق والغرب. وبعد أحداث أيلول (2001) دفع العرب وعلى وجه الخصوص العراق، كدولةٍ وشعب ثمناً باهظاً، نتيجة لنزوة المختل عقلياً جورج بوش الأبن، ومن قبله جورج بوش الأب. وقد استغل المستبدون حول العالم مصطلح محاربة الإرهاب، الذي صاغته الصهيونية، كي يُنكلوا بمعارضيهم حيثما كانوا، ويعززوا من نفوذهم، تحت حجة محاربة الإرهاب.
هناك، في هذه الأيام، إشارات صريحة ومُبطنة، تشير إلى أن الأنظمة المُستبدة، ومعها المختلون عقلياً من الحكام، ستُجّير جائحة الكورونا، في سبيل تعزيز نفوذها وجبروتها في المجتمعات الخاضعة لها. وقد بادر حكام الصين والفلبين بتشريعات كي يُحكموا قبضتهم الظالمة على الأقلية المسلمة في بلدانهم. وهناك مقدمات في بعض الدول الأخرى، ومنها بلدان عربية، تشير إلى الأمر ذاته. وقد وظف حكام هذه البلدان آلة إعلامية متكاملة كي يبينوا للناس بأنه لولا حكمتهم لقضى المجتمع نحبه.
ما الذي يُمكن أن نقوم به، نحن في الأردن، ولدينا ما يكفي من الحكمة وبُعد النظر؟
لابد من تشخيص الوضع القائم، كي نتمكن من قراءة المستقبل.
هناك، في الأردن، عدة مدراس سياسية – فكرية، متنافرة ومتناحرة إلى حد ٍ ما. لكنها إلى هذه اللحظة لم تصل إلى مرحلة التصادم، التي على ما يبدو لا يرغب أحدٌ بالوصول إليها. وأستطيع، من وجهة نظري المحضة، تصنيف هذه المدارس ومشاربها الفكرية كما يأتي:
أولاً) مدرسة التبعية (Dependency School)، مدعومة بـ مدرسة التجهيل (ِAgnotology School). تتكون المدرسة الأولى من سياسيين تكنوقراط، حصلوا على شهاداتهم العلمية من جامعات غربية، وتأثروا بالثقافات والمجتمعات الغربية، ولديهم ارتباطات مع مؤسسات مؤثرة في العالم الغربي، ويؤمنون إيماناً مطلقاً بدونيتهم (inferiority) وتفوق الغرب علينا، أخلاقياً وعلمياً وفكرياً وثقافياً ومادياً. أما المدرسة الثانية فهي مكونة من فئة مُعبئة من أصحاب المصالح الشخصية، تقوم بوظيفةٍ واحدة، وهي حشد الجهل (mobilization of ignorance) من عامة الناس، بواسطة العشائرية والقبلية والجهوية والطائفية، والإقليمية كي تخدم مصالح المدرسة الأولى، بواسطة نشر الجهل والفتنة الناعمة والمعلومة الزائفة، وتبرير أخطاء وخطايا مدرسة التبعية، ومساعدتها في تنفيذ سياساتها، بواسطة الصخب والتهديد وتشويه سمعة ونزاهة أشخاص المعارضة الوطنية الحقيقية.
هاتان المدرستان هما المسؤولتان عن التعديلات الدستورية، والتشريعات التي أودت بالحريات الشخصية. ولسان حال هاتين المدرستين يقول بالحرف الواحد، كما ورد على لسان النبي نوح عليه السلام "لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا". والآلهة في سياق تشخيصي هي مؤسسات البنك الدولي وصندوق النقد، والوكالة الأمريكية، ووكالات التنمية التابعة لدول مثل بريطانيا، وفرنسا، والاتحاد الأوروبي، بشكل عام، باعتبارها آلهة إذا غضبت علينا فإنها ستحرقنا، ثم نموت ذلاً وجوعاً!!! وقد أدت هيمنة هذه المدرسة على شؤون الحياة العامة، في حقبة امتدت على نحو تسعين سنة وحتى تاريخه، إلى إدخال تشوهات هيكلية في الاقتصاد والمجتمع والعمل السياسي، ابتداء من تدمير مفهوم الأمن الغذائي بواسطة تهميش القطاع الزراعي، مروراً بتدمير الأمن الاقتصادي بواسطة الاعتماد على القروض والمساعدات الأجنبية، وانتهاءً بخلق حالة من التهويش ومقاومة الحلم بالديموقراطية الحقيقية.
ثانياً) مدرسة اللامبالاة (School of Apathy)، تتكون من أصحاب المصالح الذي يعرفون الحق، لكن مصالحهم تمنعهم عن قوله، إلا إذا تأثرت مصالحهم. فهم في كل وادٍ يهيمون، ولا يمكن أن ينحازوا إلا إلى مصالحهم، ومصالحهم فقط.
ثالثاً) مدرسة التجديد، وإعادة التأهيل (Renovation and Rehabilitation School)، تتكون من معارضين في الطبقة الوسطى، لسان حالهم الخجول يقول بأنه لابد من إعادة تجديد وتأهيل النظام الاقتصادي – الاجتماعي، بواسطة خطوات تدريجية، نأخذها على استحياء.
رابعاً) مدرسة التجديد والثورية والضغط الخلاّق (Renovation, Revolutionary and Creative Pressure School)، تتكون من نخب فكرية معارضة، يجمعها قاسم مشترك واحد، وهو الرغبة الجامحة والضاغطة بالتغيير نحو الأفضل.
خامساً) مدرسة الجهلة (Ignoramus School)، تتكون من الذين لا يعلمون شيئاً عن الوجود، أو عن أي شيء مما يجري حولهم، باستثناء رواتبهم الشهرية وحاجاتهم البيولوجية، مثل أكل وشرب ونام وتناسل. صنفتها كذلك، لأن فيها متعلمون يحملون شهادات علمية عالية. وهي مدرسة فكرية لأن لوزنها الميت تأثير مميت على تفكير عامة الناس، وبعض خاصتهم. وقد صنفها الفيلسوف الكندي ألان دونو تحت مسمى نظام أو مدرسة التفاهة (Mediocrity).
ليس هناك أمل يُرتجى من القوى الفاعلة في أربع مدارسٍ من المدارس الخمسة.
علينا أن نتخيل بأن الاقتصاد والمجتمع والنظام السياسي يشبه حالة شخص مريض، يقبع في غرفة في عيادة أو مستشفى ما. هذا المريض يأكل ويشرب ويتنفس، لكن صحته تتراجع على مدار الساعة. وكي يُنقذ الأطباء المختصون حياة هذا المريض يقوموا بين الفينة والأخرى بإعطائه جرعات من بعض المسكنات، وبعض المقويات والأدوية المنعشة، لكن كل هذه الإجراءات لن تنقذ حياة المريض إذا استمرت أوضاعه بالتراجع اليومي. فعليهم في هذه الحال أن يضعوا خطة تتكون من ثلاث مراحل: تتضمن الأولى تخفيف آلامه بواسطة المسكنات والفيتامينات والمقويات. أما الثانية فتتضمن تشخيص المرض بروية وتؤدة، ثم وضع الخطة المناسبة. وتتضمن المرحلة الثالثة تنفيذ خطة إنقاذ حياته من الهلاك المحتوم.
الاستثمار الأجنبي، والقروض والمنح والمساعدات الخارجية التي نتلقاها هي المسكنات والمُقويات والأدوية المنعشة، لكنها مؤقتة، لا خير فيها، والمزيد منها يرسخ التبعية، والذل.
حسب ظني وفهمي وتقديري الشخصي، تسعى مدرسة التجديد والثورية والضغط الخلاق إلى احداث تغييرات اقتصادية وسياسية واجتماعية هيكلية! ولديها رؤيا حقيقية قابلة للتنفيذ في ثلاثة آماد زمنية:
1) الأمد القصير المُداهم: حيث لا نستطيع تغيير الأمر الواقع إلا بالتروي والتفكير العميق، والتعاون الهادف مع آلهة رأس المال الدولي، التي يعبدها ساسة مدرسة التبعية. لكن هذا الأمد ينبغي ألا يمتد أكثر من سنيتن إلى خمس سنوات. بحيث يتضمن شد الأحزمة بشكل فاعل وحقيقي وملتزم. ويتضمن كذلك ترتيب الأولويات الوطنية، في المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والتعليمية. ثم مجرد الشروع في وضع خطة محكمة جادة يتم تنفيذها في الأمد المتوسطـ تتضمن تعديلات دستورية جوهرية.
2) الأمد المتوسط: يتضمن إجراء تعديلات دستورية تنص صراحة من غير لبس على تخلي الملك عن كل سلطة اكتسبها ومنحها له الدستور المُعدل بعد العام (1952). وتتضمن عدم تدخل الجيش والمؤسسات الأمنية في العمل السياسي، باستثناء حماية البلاد من المخاطر الخارجية. وأن يتضمن التعديل الدستوري النهائي فقرات صريحة لا لبس فيها تحمي الملك من الانقلابات الممكنة، أو أي تعديلات في قوانين البلاد تنقص من هيبته ومستوى عيشه، أو أي عنف ضده، وضد عائلته، وأقاربه، ومخصصاته المعيشية. كما تتضمن انتخاب رئيس الوزراء بواسطة الاقتراع المباشر، عليه أو على الحزب السياسي الذي ينضوي تحت لواءه. ويُكلف من الملك مباشرة، بواسطة القانون النافذ.
في هذه الحالة يتحقق المبدأ السياسي الذي يقول بأن الملك يملك ولا يحكم. وأن السلطة التنفيذية مُنتخبة أو موافق عليها بواسطة الأكثرية النيابية المنتخبة بواسطة الاقتراع المُباشر من قبل قوى الشعب. وأن البلاد كلها دائرة انتخابية واحدة، أو تقسيمها إلى ثلاث أقاليم. وترتيب عدد الممثلين حسب عدد السكان. ويُعامل كل أفراد الشعب أمام الدستور بشكل أفقي متساوٍ، لا فرق بينهم، من حيث العِرق أو الدين، أو المنبت. ويعاقب كل من يدعو إلى قبلية أو عشائرية أو طائفية أو جهوية أو إقليمية بأشد العقوبات الممكنة، والمتناسبة مع جريمة التفرقة والتمييز بين الناس على أساس الدين أو العرق أو المنبت.
كما يتضمن الأمد المتوسط تنفيذ خطة ثورية حقيقية في مجال التعليم العام والعالي والتقني، كي يتواكب مع كل التطورات العلمية والتقنية على مستوى العالم كله.
3) الأمد الطويل: يتضمن خلق المؤسسات بمعناها الاقتصادي، وهي القوانين الراقية التي تحمي الأرض والإنسان، وحقوق البشر، وحرية الرأي، وتشجع على البحث والتطوير، وتقديس الوقت والعمل الإنتاجي، وأن الاستحقاق لا يتم إلا بناء على الإنتاج والقيمة المضافة في مجال الاقتصاد والتعليم والمعرفة. كما يتضمن خلق المؤسسات الاجتماعية الحميدة، ومنها إعادة تشكيل ذهنية البشر حول الاقتصاد والمجتمع والعمل السياسي، وتدمير الأمر الواقع المتعلق بالعشائرية والإقليمية والجهوية، والواسطة والمحسوبية.
تمكن النظام بشكل عام من بناء سلطة، لكنه لم يبنٍ دولة! وما يمكن أن يتحقق بواسطة هذه الإجراءات والاستراتيجيات هو:
أ)إعادة بناء القطاع الزراعي، وحمايته من أي تهميش، وذلك من أجل تحقيق الأمن الغذائي. وتخصيص الموارد لتنميته بشكل مستدام.
ب) إعادة تشكيل ثقافة الاستهلاك التظاهري، وتشجيع وترسيخ ثقافة الادخار المُنتج.
ت) إعادة تشكيل قطاع التعليم العام، والتعليم العالي، بحيث يؤدي إلى صناعة رأس المال البشري اللازم للتنمية المستدامة.
ث) إعادة تشكيل البشر، ليكونوا من المؤمنين بالمواطنة الحقة، والحرية وتداول السلطة، والمسؤولية، ونبذ الواسطة والمحسوبية، والتمييز الإقليمي والديني والجهوي. وترسخ تقديس الإنتاج وتوظيف القت بالعمل الجاد، ونبذ التفاهة بأشكالها المتعددة.
ج) وأخيراً بناء دولة المواطنة المنيعة، القادرة على الصمود أمام الجوائح والكوارث، مهما كانت جامحة وقوية.
يقول قانون العوامل المُحدة (Law of Limiting Factors)، بأن غياب أي من هذه النتائج الضرورية والمتوقعة من الاستراتيجيات لن يؤدي إلى تحقيق الهدف النهائي، وهو دولة القانون والمؤسسات والإنتاج. ما يعني بأن علينا العمل بكل جدية وصبر كي نحققها بكليتها. وبخلاف كل ذلك ينبغي ألا نأمل أو نحلم بالتقدم والازدهار والتحرر من ربقة آلهة رأس المال الغربي والشرقي. وسنراوح المكان الذي ألفناه منذ بداية القرن الماضي حتى تاريخ، باستثناء الشكليات المادية، التي لا تسمن ولا تغني من جوع.