jo24_banner
jo24_banner

كوكب الدولارات

د. عبدالرزاق بني هاني
جو 24 :


في لقاء متلفز، قبل أسبوعين، كنت قد ذكرت بعض الحقائق التاريخية عن الأزمة الاقتصادية العالمية الناتجة عن وباء الكورونا. وهي ذات الأزمة التي كُتبت عنها موسوعات وطرائف وتحليلات سياسية واقتصادية واجتماعية، لم تحظ بها الكوارث العالمية التي سبقتها. وقد قلت في ذلك اللقاء بأن كساد العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي لا يساوي إلا جزءاً بسيطاً من هذه الكارثة المُحققة. فخلال ستة أسابيع على بداية الأزمة تقدم ما يزيد عن واحدٍ وعشرين مليون عامل وموظف أمريكي إلى صندوق التعطل طلباً للمساعدة، بسبب فقدان وظائفهم وتعطل اعمالهم. وقررت الحكومة الاتحادية أن تضخ مبلغاً معلناً عنه يتجاوز ترليونين من الدولارات، مساعدة تقدمها للقطاعات التي ضربها الإغلاق الاقتصادي، وهبات نقدية مباشرة تقدم للأسر الأمريكية. وقد تسببت الجائحة بإغلاقات عمت معظم اقتصادات العالم، فتعطل الإنتاج والتوزيع فيها، إلا على نطاقات ضيقة.

في خضم الأزمة، وانشغال العالم بمكافحة الوباء، حدث أمرٌ غريب، ومخيف! حدث بهدوءٍ وخلسة، لم ينتبه له كثيرٌ من المتابعين، أعلمني عنه أستاذٌ للأعمال في جامعة برينستون. ومفاد هذا الأمر أن الحكومة الاتحادية، من خلال وزارة الخزانة، قد اتفقت مع النظام الاحتياطي الاتحادي (Fed) على اصدار كميات من الدولارات، تُقدر بعشرين ترليون دولار، وهي كمية مكافئة لقيمة الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي لسنة كاملة. لكن هذه الكمية من الدولارات المصدرة لم تتساوق مع كمية إنتاج سلعي أو خدمي يُكافئها، لأن الاقتصاد الأمريكي قد تلقى صدمة كلية (macro shock) أدت إلى هبوط حاد في قيمة الناتج الإجمالي المتوقع، بنسبة تقترب من (25%). وبالتالي فإن هذه الكمية من الدولارات ليس لها مبرر من الناحية الاقتصادية. فالسياسة النقدية لابد أن تتساوق مع السياسة المالية، كي لا يحدث التضخم!

بعد عدة أيام من البحث عن أساس خبر إصدار الكمية الضخمة من الدولارات، بعث لي الصديق نفسه برابط لموقع أمريكي يحمل اسم (Planet Money)، وهو ما دفعني أن أختار الاسم ذاته ليكون عنواناً لهذا المقال. وفي ذلك الموقع وجدت جزءاً من ضالتي.

تقول المعلومات الواردة في الرابط بأن نظام الاحتياط الاتحادي قد فتح حسابات مقايضة (swap accounts)، مع عدد من الدول، يتم بواسطة هذه الحسابات مقايضة العملات المحلية بدولارات، حسب سعر الصرف المتفق عليهن مع كل دولة. ومن هذه الدول؛ اليابان وأستراليا، والمكسيك والنرويج. واستثنى الصين وروسيا وإيران من التزود بالدولارات. واتفق النظام الاحتياطي الاتحادي مع (170) مصرفاً مركزياً (بنك مركزي) حول العالم على مبادلة سندات الخزانة الأمريكية التي تحتفظ بها هذه المصارف، مقابل النقد بالدولار!

يتابع الخبر الوارد في الرابط بأن النظام الاحتياطي الاتحادي أصبح من حيث الواقع مصرفاً مركزياً لكل من يرضى ويريد أن يتعامل بالدولار! أي أن يرضى ببقاء الدولار عملة مهيمنة على الشؤون النقدية والتجارية العالمية.

السؤال الذي ينبغي أن نطرحه في هذا السياق: ماذا سيحدث للقوة الشرائية للدولار في ظل إغراق العالم بهذه الكمية الضخمة من الورق؟

من الطبيعي أن نتوقع تراقي الكثير من المصائب الاقتصادية وحالات الفقر والحرمان، إذا أخذنا بعين الاعتبار بأن كمية الدولارات المُصدرة من غير غطاء إنتاجي تعني بأن الأسعار ستشهد ارتفاعاً كبيراً، وبخاصة في الدول الفقيرة التي تعتمد على الدولار للحصول على احتياجاتها الأساسية من الغذاء والمواد الخام. كما أن أسعار النفط المتهاوية تعني بأن حصول الاقتصاد الأمريكي على الوقود الأحفوري سيكون مقابل كلفة بسيطة جداً لا تتعدى كلفة طباعة أوراق الدولارات.

ماذا ستحقق الولايات المتحدة من هذا العمل؟

يُمكننا تلخيص ذلك في التوقعات الآتية:

أولاً) ستحكم الولايات المتحدة قبضتها على الاقتصاد العالمي، باستثناء الاقتصاد الصيني. وقد استثنيت روسيا وإيران لسببين مختلفين. الأول بالنسبة لروسيا فهي ستقبل بالخضوع للهيمنة الشكلية الأمريكية إذا أرضتها الولايات المتحدة بشيء من التبادل، وسكتت على بعض سلوكياتها الشاذة على المسرح الدولي. وبالنسبة لإيران فإنها لا تقوى على مقارعة الهيمنة الأمريكية إلا بالصوت العالي، والتهويش عن بعد.

ثانياً) سترسخ الولايات المتحدة قوتها العسكرية، كنتيجة لتعاون معظم دول العالم معها، بسبب الدولار، باستثناء الصين. لكن الصين تلقت صدمة اقتصادية عنيفة جراء الكورونا، والدعاية الأمريكية المضادة، واتهامها صراحة بنشر الوباء حول العالم. وفي ذلك أقول بأن الصين بعيدة جداً عن الوصول إلى قمة هرم القوة المهيمنة عالمياً.

ثالثاً) ستحصل الولايات المتحدة على المواد الخام من أنحاء العالم بأسعار زهيدة، بواسطة الدولارات الورقية. ما يعني بأن حالة تبعية الأطراف للمركز ستزداد قوة وثباتاً.

رابعاً) سيخرج الاقتصادي الأمريكي متعافٍ من الكساد الحالي، ولو بعد حين، وسيغدو أقوى من قبل، ولو نسبياً. لكن ذلك سيكون على حساب كل البشر، باستثناء الأمريكيين، وبعض حلفائهم الأقوياء، مثل بريطانياً وكندا وأستراليا، وهي الدول المشكلة للنظام المعروف بالأنجلوساكسوني، الإضافة على ألمانيا واليابان.

في سياق كل ذلك أقول بأن الأوان لم يحن للعرب أن يستيقظوا من سبات الفرقة والصراعات الجانبية التي لا تخدم إلا عدوهم، الأول والأخير، وهو الصهيونية، في فلسطين وخارجها، بما فيها صهاينة الداخل، فهم أشد فتكاً بقلوبناً، ومستقبلنا كأمة.
 
تابعو الأردن 24 على google news
 
ميثاق الشرف المهني     سياستنا التحريرية    Privacy Policy     سياسة الخصوصية

صحيفة الكترونية مستقلة يرأس تحريرها
باسل العكور
Email : info@jo24.net
Phone : +962795505016
تصميم و تطوير