أما آن للعقل المشنوق أن يترجل - الجزء الأول
د. عبدالرزاق بني هاني
جو 24 :
لا يساورني أدنى شك بأن عامة الناس وخاصتهم مشغولون، في هذه الأيام، بجائحة الكورونا. لأنها حدثُ الساعة، ولأن الوباءَ حدثٌ غير مسبوق، في العصر الحديث، من حيث آثاره على الاقتصاد والمجتمع والسياسة والجغرافيا، في كافة أنحاء الدنيا، ناهيك عن تبعاته التي تتكشف أولاً بأول، ستظهر بمجملها بعد هدوء الإعصار القاتل، اللهم إذا استثنيا ما جرى خلال وبعد الحربين العالميتين؛ الأولى والثانية.
على الصعيد الاقتصادي، تلقت الاقتصادات الكبرى أقوى صدمة نسبية، منذ الحرب العالمية الأولى لأن الاقتصاد العالمي وصل إلى أوج الإنتاج والتقدم الصناعي والتقني. وهي مرحلة لم يصلها عبر التاريخ الحديث. ولهذا السبب أقول بأن الصدمة مفجعة، وآثارها ستكون أكثر إيلاماً.
الجائحة بلغة الاقتصاديين هي الأوزة السوداء (Black Swan)، وهو مصطلح مجازي يستخدمه الاقتصاديون في وصف الأحداث وتآلفها المؤدي إلى خلخلة التوازنات الاقتصادية الكلية. فقد مُحِقت ثروات طائلة، وبانت سوءة الاقتصادات الكبرى، وأصبحت هشاشتها مكشوفة بشكلٍ سافر، ولأنها، أصلاً، نتاجٌ مشوه لمنظومة تقسيم العمل الدولي غير العادل، حيث يكدح الفقراء كي يتنعم الأغنياء والمترفون. وهذه المنظومة كانت نتاجاً حتمياً تراكمياً لفلسفة رأس المال الأنجلوسكسونية الظالمة، التي دمجت العالم بالإغراء والقسر، وأثْرَتْ على حساب سعادة البشرية، ونهب الشعوب، على مر تاريخها الدموي الأسود، منذ عصر الاستكشافات الجغرافية، في منتصف القرن الخامس عشر، وحتى هذه اللحظة.
في سياق حديثنا لابد من التلميح إلى اقتصادات النفط، وخاصة العربية منها، حيث تضاعفت المعاناة فيها، لأن الضربة الموجعة جاءت من ثلاث جبهات؛ جبهة الوباء، وجبهة المرض الهولندي (Dutch Disease). وهذا المرض الأخير لا يُصيب إلا الدول التي تعتمد اقتصاداتها ومجتمعاتها على الريع، وعلى مورد طبيعي واحد، غير متجدد، ولا تحسن إدارة مواردها. والجبهة الثالثة هي عسكرة الموارد في الحروب والصراعات الإقليمية. وعلى الرغم من أن المرض الهولندي هو عَرَضٌ اقتصادي وليس بيولوجي، إلا أنه يُصيب الاقتصاد والمجتمع المقصود في مقتل!
على صعيد الإدارة، أدى الوباء إلى انهيار النظم الصحية في الدول القوية قبل الضعيفة، ومنها ما كان مشهوداً لها بحسن إدارتها للمرافق الصحية العامة، فكانت تفاخر بها أمام العالم كله، وليس أدل على ذلك مما عانت وتعاني منه إدارة الموارد في دول مثل إيطاليا وإسبانيا وفرنسا وبريطانيا، والولايات المتحدة.
على صعيد إدارة الأزمات، لاحظ المراقبون التخبط والعمى العظيم الذي وقع فيه ساسة العالم، شرقاً وغرباً، من غير استثناء. إذ لم يكن هناك فرقٌ بين الأغنياء والفقراء، والأقوياء والضعفاء. لأن الحرب التي يخوضوها ضد جنّي قاتل، غير مرئي، لم يمنحهم الفرصة الكافية كي يُحاربوه بأسلحتهم التي اعتادوا عليها؛ سواء كانت أسلحة تقليدية أو غير تقليدية.
يكمن القاسم المشترك بين الأنظمة الوطنية، على مستوى العالم كله، في أنها حيدّت قوة العقل والضمير. فقد جعلت هذه الأنظمة من النمو الاقتصادي إلهاً يُعبدُ من دون الله. وقد اعجبتني عبارة رائعة ومحزنة بالوقت نفسه للمؤرخ الأمريكي جون روبرت ماكنيل (John R. McNeil)، وفيها يتحدث عن النمو الاقتصادي باعتباره عقيدة سادت في العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى هذه اللحظة، أترجمها تالياً بتصرف:
... كادت الشيوعية أن تصبح عقيدة كاسحة في القرن العشرين، لكن عقيدة أخرى أكثر مرونة وجاذبية، وهي عقيدة البحث عن آليات النمو الاقتصادي، تمكنت من النجاح حيث فشلت الشيوعية.
على الجانب الآخر، توجه الناس إلى عبادة الرأسمالية والقومية، بما فيهم الشيوعيون، لأن النمو الاقتصادي أخفى وراءه مجموعة كبيرة من الآثام. ففي إندونيسيا واليابان تسامح الناس مع الفساد طالما بقي النمو الاقتصادي واستمر. وبسبب النمو الاقتصادي سكت الناس في دول مثل روسيا وبعض الدول على حكم أنظمة الاستبداد والقمع، وقبلَ الأمريكيون والبرازيليون بالفوارق الاجتماعية الهائلة، فاستدامت الشرور الاجتماعية والأخلاقية والبيئية من أجل عيون النمو الاقتصادي ... وفي الوقت ذاته استمر الملتزمون بهذه العقيدة بالقول بأن المزيد من النمو الاقتصادي سيعمل على حل كل هذه المشاكل والقضاء على الشرور الناجمة. فقد أصبح النمو الاقتصادي عقيدة لا غنى عنها في كل مكانٍ تقريباً ...!
أصبح نموذج النجاح التقني معياراً للتقدم الحضاري، لكن الإنسان بصفتهِ مخلوقٌ سامٍ، والبيئة بصفتها منحة ونعمة من الله تعالى، كانا الضحيتين الرئيستين على مذبح إله رأس المال وإله الثروة ومتعة الأغنياء، وجبروت العسكر.
في خضم البحث، من قِبل كل الأنظمة السياسية، عن إله النمو الاقتصادي، نسي السياسيون والمخططون الاقتصاديون، وهم غالباً ما يكونوا أغبياء، ما يُسميها الاقتصاديون، المتبحرون في علم الله، نظرية القيم القصوى (Extreme Value Theory). وهي ذات النظرية التي تخاطب الإنسان بأنه لن يصمد أمام إحدى نزوات الطبيعة غير المتوقعة.
تقول النظرية بتعبير مجازي محض:
-قد تصمد أيها الإنسان أمام هزة أرضية بقوة (7) على مقياس ريكتار، لكنك لا تستطيع الصمود للحظة واحدة إذا ما غضبت الطبيعة وقررت أن تضرب بهزة مقدارها عشرون درجة. وهل تستبعد من الطبيعة هذه النزوة الجامحة؟!
-أنت أيها الإنسان لم تخبَر من الطبيعة إلا ما ألِفتَهُ منها، لكن أسلحتها أعظم تدميراً من كل قنابلك وسفنك وطائراتك، ودباباتك، وجنودك.
-قد تستطيع أيها الإنسان أن تصمد أمام الكورونا، وقد تتمكن قريباً من تطوير اللقاح المضاد. لكن الطبيعة حية، وأذكى منك، فهي تعمل على الدوم في معامل خاصة كي تطور فيروسات وجراثيم، قد تكون أفتك بألف ضعف من الفيروسات والجراثيم التي اعتدت عليها. وإذا ما قررت الطبيعة أن تضرب بأحد أسلحة الدمار الشامل، فإن ضربتها ستكون قاضية. فصراعها مع إله رأس المال وآلهة السلطة والجبروت والظلم يجري على حلبة مفتوحة، والانتصار النهائي سيكون حليفها ... الإنسان يسهو وينام وينسى، لكن الطبيعة لا تسهو ولا تنام ولا تنسى. وقد علمها الله تعالى كيف تدافع عن نفسها، إذا ما أرادت أن تنتقم من ظلم الإنسان وتخريبه وجبروته، وخاصة ظلمه لأخيه الإنسان. ولا يمكن للطبيعة أن تنسى المذابح التي ارتكبها الجبابرة، ومازالوا يرتكبوها من غير أن يرف لهم جفن عين. ولن تنسى الخراب الذي أحدثه الإنسان الجشع في هيكل البيئة وجوهرها.
ما الذي يمكن استنتاجه مما يجري؟
أولاً) أجد نفسي مضطراً أن أفصح عن حقيقة دامغة رأيتها، ومازلت أراها، في أكثر من خمسين سنة من القراءة والكتابة المستمرة في سيرة العلم والطبيعة والأديان والاقتصاد والمجتمع، وليس انطلاقاً من تنجيم، ولا تشاؤم مختلق، بأن وباء الكورونا، وآثاره الاقتصادية والنفسية، سيكون غيضاً من فيض ما تحمله السنوات والعقود المقبلة، من جوائح وويلات، إذا بقيت الأمور على ما هي عليه الآن.
من عادة البشر أن ينسوا أو يتناسوا أية كارثة، بعد مدة قصيرة من اختفاء مسبباتها. وكي أوضح ما أقصده أقول بأن من عادتنا، بعد أن ننتهي من مراسم دفن الميت، أن ننسى الموت ذاته، وننسى أسبابه، لننشغل بأمور أخرى، تنسينا الحدث، وتلهينا عن سببه. فهذه هي صفة البشر بشكل عام. ولهذا السبب أتوجه إلى مجتمعي، أولاً، ثم إلى السياسيين الذين يظنوا بأن انحسار الوباء بعد مدة يُعتبر الانتصار النهائي. ورأيي في هذا السياق أن الذي لا يتعلم من التجارب المتكررة ليس إنساناً سوياً، مهما ادعى، ومهما كانت إنجازاته اللاحقة.
ثانياً) لابد للحصيف منا أن يتأمل في فكرتين أساسيتين: الأولى هي أن العلم هو نتاج العقل، والعقل هو نتاج التجربة والخطأ. أما الثانية فهي أن النبوءة ليست محصورة في الرسل الأنبياء، بل هي خاصية تتميز بها كل المخلوقات، لكن درجتها تتفاوت بين كائن وآخر. فالحيوان في الغابة يهرب من لهيب النار التي تشتعل بين الفينة والأخرى، انطلاقاً من نبوءته بأن النار ستحرقه. ونحن نسمي المختص بشؤون الطقس متنبئاً جوياً لأن استنتاجاته عن الطقس مبينة على خبرة وظروف متآلفة، ونقول بأن فلاناً عالم في الاقتصاد لأنه يتنبأ بالأحوال الاقتصادية بناءً على معطيات معينة، وعالم الكيمياء يعلم بأن حامض الكبريتيك مع الماء سينتج الكهرباء، وهكذا. لكن كل العلماء يعرفوا على وجه اليقين بأن هناك هامشاً للخطأ، يتفاوت حسب تراكم الخبرة لديهم.
بناءً على ما تقدم أقول بأن المجتمع والنظام العاقل، وليس المجتمع الهش والنظام النزوي، لابد أن يستعد لهامش خطأ قد يكون مميتاً بكل المقاييس. ولذلك لابد من استخلاص الدروس الهامة من جائحة الكورونا، وطرح السؤال البسيط الآتي: ماذا لو استمر انتشار الوباء، بشكل متسارع، لفترة تزيد عن شهرين أو ثلاثة. الإجابة بكل بساطة هي أن الناس سيموتون جوعاً، إن لم يموتوا من الوباء نفسه.
ثالثاً) الدروس والعبر، التي ينبغي أن نتنبه إليها كي نستعد لمواجهة الضربة المؤلمة القادمة:
1)ليس هناك شيءٌ اسمه حُسن نوايا في العلاقات الدولية. فكل الدول تلعب على رقعة واحدة للشطرنج، تريد كلُ دولة منها أن تنتصر في المباراة، باستثناء الدول الهامشية، التي لا قيمة اقتصادية أو سياسية، أو جغرافية لها، من وجهة نظر الأقوياء. والطريق إلى جهنم مفروشٌ دائماً بالنوايا الطيبة، والشعور بالأمان من حلفاء المصلحة.
2)ليس هناك انتصارٌ نهائي في أية حرب، سواء كانت حرب بين البشر أنفسهم، أو حرب البشر مع الطبيعة، وما تخفيه.
3)تتغير طبيعة البشر خلال الجوائح والمصائب الشاملة نحو الأسوأ! لأن للإنسان أولويات، لا يُمكن أن تتبدل: أنا أولاً ثم الآخرين، وابني أولاً ثم ابن الجيران، ومجتمعي أولاً قبل كل البشر، وهكذا. فهي طبيعة البشر التي لا يمكن إنكارها. وقد قضى أولئك الذي يؤثرون على أنفسهم ولو كان فيهم خصاصة!
الخطة الواجب الانتباه إليها كمجتمع ودولة تتشكل من ثلاثة آماد: الأمد القصير المباشر، والأمد المتوسط، ثم الأمد الطويل. وكل أمد يحتاج إلى آليات وقرارات وسياسات واستراتيجيات. لكن الحل النهائي سيكون في حضن الأمد الطويل.
الخطة التي أتحدث عنها ستكون موضوع مقالتي، بإذن الله تعالى، بعد عدة أيام.