نظرية الحلقة أو التفاحة الفاسدة
د. عبدالرزاق بني هاني
جو 24 :
قد يكون عنوان أو اسم النظرية غريباً بعض الشيء، لكن عامة الناس وخاصتهم يعرفون اسم ومعنى النظرية تحت مسميات متعددة، منها التفاحة في صندوق التفاح.
نشأت هذه النظرية من ملاحظة هامة للفيلسوف واقتصادي التنمية الأمريكي مايكل كريمر "Michael Kremer"، وذلك بعد كارثة مركبة الفضاء الأمريكية تشالنجر Challenger في بداية عام 1986، كنت حينها أشاهد برنامجاً صباحياً على محطة "ABC" الأمريكية في سانتا باربارا - كاليفورنيا - الولايات المتحدة، وفجأة انقطع البرنامج ليعلن مقدم البرنامج انتقال البث مباشرة من رأس كانيفرال - فلوريدا، ويعلن بدأ الاستعدادات لانطلاق المركبة الفضائية تشالنجر في مهمة متعددة الأهداف في الفضاء الخارجي، منها مسح الكواكب القريبة، ومسح حركة المحيطات والبحار، وحقول النفط حول العالم، وبعض المهام العسكرية السرية..
انطلقت المركبة بكل الزهو والعظمة التي عادة ما يُظهرها الأمريكيون في مثل هذه المناسبة، وقُدرت كلفة المركبة والرحلة الفضائية بثلاثة مليارات دولار أمريكي في ذلك التاريخ، وبعد انطلاقها بثلاث أو أربع دقائق، ووصولها مسافة لا تقل عن سبعين أو ثمانين كيلومتراً في جوف الفضاء الخارجي وإذ بانفجارٍ عظيم وكرة لهب قدر الخبراء حينئذ طول قطرها بأكثر من ألف متر، فوجم الناس الذين كانوا يشاهدون ذلك الحدث المفجع، وتيقنوا بعد قليل بأن المركبة انفجرت ودُمرت بالكامل، وقُتل كل من عليها، وكانوا من خيرة رواد الفضاء في زمنهم.
بعد ثلاثة أشهر من التحقيقات المستمرة والمكثفة، تبين للمحققين أصل الفاجعة النفسية والمعنوية والمادية، وكتبوا ذلك في تقريرهم الذي نشر بعد الانتهاء من التحقيقات، وكان مفادها أن حلقة معدنية مركبة في صمام خزان الوقود، وهي مصممة أن تتقلص وتمدد خلال ثوانٍ محددة لكنها لم تؤدّ وظيفتها كما ينبغي، فتولد بسبب ذلك ضغط كبير وسبب الانفجار المدمر!
تابع المحققون سير التحقيق وتبين لهم الحقيقة المرة الثانية، وهي أن مسؤول العطاءات الموكل إليه شراء قطع المحرك وخزان الوقود قد خُيّر بين مصنعين للحلقات المعدنية، أحدهم يبيع الحلقة بعشرة دولارات ويبيعها الآخر بخمسة عشر دولاراً، فاختار مسؤول العطاءات الحلقة من المصنع ذي السعر الأقل، لكن خاصية التمدد والتقلص للحلقة الأرخص ليست بالنوعية العالية مثل الحلقة الأعلى ثمناً، ما يعني بأن فرق الخمسة دولارات بين السعرين سَبَبَ كارثة مقتل الرواد وخسائر مالية بأكثر من ثلاثة مليار دولار، إضافة إلى الخسائر المعنوية، فنشأت نتيجة لذلك نظرية الحلقة، وهي نظرية التفاحة الفاسدة!
تتخيل نظرية التفاحة الفاسدة بأن الإنتاج يمر بسلسلة وحلقات من العمليات، حتى وإن كان ما ننتجه بشراً، فالله تعالى هو الخالق، لكن المجتمع والثقافة السائدة والنظام السياسي هو من يُنتج هؤلاء البشر، وعلى سبيل المثال عندما يدخل الطفل مرحلة الروضة تبدأ شخصيته بالتشكل فيتعلم شيئاً من العالم المحيط به، إذ تُعتبر الروضة مع أسرة الطفل الحلقة الأولى من الإنتاج، يدخل بعدها إلى الحلقة الثانية وهي المرحلة الابتدائية فيتعلم على مدار ست سنوات أصنافا شتى من العلوم والمعارف الابتدائية، ومن المفترض أن تنصقل شخصيته إلى حدٍ ما، وهذا محض افتراض، فينتقل إلى المرحلة الثالثة والرابعة والخامسة ثم الأخيرة إذا كُتب له أن يدخل في مرحلة التعليم ما بعد الأساسي...
تقول نظرية التفاحة الفاسدة أن أساس الإخفاق الذي يقع فيه الفرد يكمن في المراحل الأولى من حياته، الروضة والابتدائي، وإذا بالغنا بالأمر فقد نشمل المرحلة الثالثة، وهي حلقة الإعدادي، فإذا أخفقنا في إنتاج الشخص في هذه المراحل كما ينبغي فإننا سنكتوي بنار فشله في ما تبقى من مراحل، وسيكون عالة على المجتمع وسيكون مدمراً للمجتمع والدولة في حالة الإخفاق في إنتاجه في البداية، وقد يكون الفرد بانياً وحامياً للمجتمع إذا أحسنّا انتاجه، فخط إنتاج البشر هو أخطر ما يمكن أن يكون في المجتمع.
لو نظرنا بموضوعية وعين المتفحص الحيادية لجاز لنا القول بأن خطوط إنتاج البشر في مجتمعنا قبل عدة عقود، تمتد إلى سبعة أو ثمانية عقود، كانت تعمل بكل كفاءة ووعي وضمير حيّ، وعلى ما يبدو فقد تعرضت خطوط الإنتاج إلى عوامل التعرية والفساد والخراب والاهتلاك المنظم، وكأن مسؤول عطاءات التخريب اختار الحلقات الضعيفة حتى أصبحت مؤسساتنا التربوية والتعليمية متخصصة بإنتاج بشر من النوعية المتردية، فلم يعد المربي والمعلم مربياً ومعلماً كما نتمنى بسبب التخريب المنظم الذي تعرضت له عمليات التربية والتعليم، ولم يعد التعليم العالي تعليماً عالياً كما كنا نراه في الماضي القريب، ولم يعد المجتمع مجتمعاً واعياً كما عهدناه بل أصبح مجتمعاً لا يؤمن بالإنتاجية والكفاءة والتقدم والتطور..
السؤال البسيط الذي يطرح نفسه: مَا الذي حصل ومن هو المسؤول عن كل هذا الخراب والحطام الأسود، فمن وجهة نظري أن السلطة التنفيذية منذ ما يقرب من ثلاثين وهي ترتكب الخطيئة تلو الخطيئة بحق الأجيال وبحث المستقبل، فقد أوكل الأمر إلى غير أهله تحت حجج غير صحيحة وغير منطقية أصلاً، وكأنما جاء مسؤولو التعليم والتعليم العالي من عالم آخر لا يمت لمجتمعنا بشيء، وأظن بأن الآوان قد آن كي ننقلب على كل هذا البؤس الذي لا يؤدِّ إلا إلى مزيد من السقوط نحو الخراب الحتمي، وكفى بالله شهيداً علينا جميعاً...