من دفتر الأيام
خمسٌ وستون عاماً عمر النكبة ، قدري أنني ولدت في هذا العام ، في مدينة أطلق عليها الكثيرون أنها قدس الأقداس ، زهرة المدائن ، عاصمة فلسطين الأبدية ، القدس لكل العرب والمسلمين والمسيحيين ...
تسميات كثيرة ومتعددة ، وتغنى بها الشعراء في قصائد وكتب ، في هذه المدينة العريقة مؤلفات ودراسات وأبحاث ، وظلت رغم الإحتلال البغيض على ترابها المقدس هي المدينة التي نحلم بعودتها ، ولدت فيها ولم أعرف عنها الكثير، لأنني لم أعش فيها لا طفولة ولا شباب ، وإنما كل ما عرفته ما رواه لي أبي وأخوتي الأكبر عن بيتنا في الشيخ جراح الذي بناه في الثلاثينيات ، والآخر في منطقة وادي الجوز الذي بناه قبله... وكذلك بيت جدي الذي يقع في طريق الآلام للسيد المسيح ، وجميعها بيوت قائمة للآن ، فوصيته قبل مماته رحمه الله في عام 74 ، كانت عدم التفريط بها أو التنازل عنها ، أو أن نصاب بالإغراء المادي وبيعها ... ونفذنا وأخواتي الوصية ، وعيوننا دائماً ترنو ليوم عودة ...
خمسٌة وستون عاماً ، وما زالت عيوننا تتجه نحو الغرب ، متمنين رؤيتها محررة قبل أن تتوقف قلوبنا عن النبض ...
مثلما حدثنا الآباء عن روعة هذه المدينة ، نحن نحدث الأحفاد عن الإحتلال، والإغتصاب، والجدار، والمستوطنات ، ليس لدي ذكرى سوى ما حفرته القصص في قلبي ونقشت حُباً .
حملت ذكرياتهم ولازمتني طوال عمري ، وبقي حلم العودة ، كحق مكتسب لي ولأسرتي الصغيرة ، فالقدس عاصمة فلسطين هي في وجداننا ، وعشقٌ لها نزرعه جيلاً بعد جيل ، فما زالت القدس شامخة تنتظر أبناءها وبناتها مهما اختلفت أعمارهم، إن كانوا من جيل النكبة ، أو النكسة ... المغتربون ، والمهاجرون، والنازحون ، هم أبناء فلسطين كل فلسطين ...
نُحب عمّان فهي مدينتنا وحياتنا وصبانا ، أعطتنا الأمن والآمان ، أعطتنا الأمل ، وجهدنا وتعبنا من أجلها ..
مثلما بنى والدي بيتين لنا في القدس ، بنى لنا بيتين في عمّان .. وكأنهما نسخة واحدة، وفي منطقة متشابهة ... فجبل اللويبدة المميز بزهر الياسمين والفل نطقنا أحرفنا الأولى، وفي جبل عمّان انهينا تعليمنا الإبتدائي والثانوي...
ويمضي قطار العمر بكل معانيه ، من سعادة وشقاء، وألم وحزن ... ونكبر حتى نشيخ ، وما زلنا نمسك القلم ونكتب كما كنا نكتب أيام الشباب ، والفرق أننا في هذه الأيام نستحضر وجوه من سبقونا إلى الآخرة ، ونعيد مشاهدة صورهم في ديارهم، أمام شجرة الزيتون أو تلك الدالية، أو صورة أمي بين جاراتها وهنّ يشربن قهوة الصباح على بلكونة المنزل العتيق ، وأمامها أخوتي يلعبون على الدراجة الهوائية ...
يا درويش .. أنت اليوم أمامي تقول أحن إلى خبز أمي وقهوة أمي ...