غرفة غير مضاءة
حنان الشيخ
جو 24 : لم تنتبه زوجته إليه، وهو يتسلل إلى خارج الغرفة، على أطراف أصابعه. كانت تئن في نومها من آلام قدميها، وتقلبت في الفراش ساعتين تقريبا، قبل أن يغلبها النوم. أما هو فالنوم جافى عينيه الذابلتين، وتمكنت اليقظة منه، حتى استسلم للواقع، فقرر أن يمارس طقوس الصحو إلى آخرها. وقف أمام ضوء الثلاجة مطولا الذي كان يضيء عتمة المكان، وكأنه يحاول أن يختار لنفسه شيئا يأكله أو يشربه، لكنه وبعد عدة دقائق استدرك نفسه واكتشف أنه لا يرغب بشيء. أضاء نور المطبخ وغلى لنفسه على مهل، فنجان قهوة بدون سكر. تسمر أمام عين الغاز سارحا متجمدا. كان يتصرف بشكل آلي ومنظم، بدون أن تبدو عليه أي ملامح تشي بمكنونات صدره.
في طريقه من المطبخ إلى غرفة الجلوس، مر من أمام غرفتها المطفأة، وسارع الخطى حتى لا تخذله إرادته، ويضعف قبالة باب الغرفة. إنما ولأنها إرادة بشرية، كان يجب أن تخذله، وتعيده إلى الوراء خطوات قليلة، وتدفعه لاستراق النظر فقط من طرف الباب. لكن شيطان "الماشوسيه" غلبه مجددا ورمى به في حضن الغرفة الفارغة تماما، إلا من سرير مفرد مرتب جدا، تستند على ظهره دمى الدببة الملونة، وتجاوره تسريحة صغيرة، لم تتجرد بعد من "الكراكيب" المزعجة، قلادات معلقة على طرف المرآة، زجاجات عطر شبه فارغة وغيرها فارغة تماما، مجموعة طلاء أظافر بألوان تنرفز العين "هنا كان يبتسم"، وصورتها القديمة مع صاحباتها، في آخر يوم في المدرسة، تتوسط رأس المرآة. هنا.. لم يملك إلا أن ينهار أمام ابتسامتها البريئة، وشقاوة عينيها، ويرتمي على سريرها الخالي، تتلقفه وسادتها الطرية، يدفن داخلها جرح صوته ودمع عينه.
لم يعرف أن يحدد مشاعره بالضبط، ما بين إحساس بالغيرة والخوف عليها، وحزنه على فراقها وخسارته لطفلته، التي لم تعد طفلة بعد اليوم. ليس بعد أن انتقلت يدها الصغيرة الناعمة المرتجفة، من كفه هو إلى كف رجل آخر هذا المساء. فالليلة كانت ابنته تزف إلى عريسها، في حفل عرس ولا أجمل، كانت هي الملكة فيه بثوبها الأبيض النقي، وضمة ورد الأوركيدا على ذراعها النحيلة، وابتسامتها الرقيقة لعريسها الذي كان "سيأكلها بنظراته"، طبعا من وجهة نظر أبيها!
لم يجرب هذا الاحساس من قبل، وهو أب لعدة أولاد وبنت واحدة. إنما كان يؤلمه كثيرا سفر الشباب إلى الدراسة مثلا، أو للعمل في دول الخليج. لكنه ألم محتمل ومسيطر عليه. يستغرب شعوره بالغيظ والحرمان الذي تولد لديه، من لحظة دخولها سيارة عريسها، إلى الآن. يستغرب كيف استطاع أن يرسم على وجهه ابتسامة كاذبة، بل ويضحك من قلبه ليجامل الأقارب والأصدقاء، بينما والدتها تقريبا لم تغادر حمام القاعة، تصلح مكياجها وتكفكف دموعها، وتعود لتصلح مكياجها مجددا. يستغرب جدا أنه رقص تلك الليلة.. رقص معها ومع عريسها بدون أن يرف له جفن!
الآن فقط، فهم دموع والد زوجته، ورفضه أن يكمل معهم حفل الزواج، بحجة المرض، ذات أصيل.
فعلا ما أصعبها من دقيقة طويلة، تلك التي تغادر فيها البنت عتبة الدار، وتلتفت برقبتها إلى الوراء، في نظرة أخيرة لحكايتها الأولى، تلتقي فيها عيناها بعيني والديها، فتشيح بهما بسرعة قبل أن تضعف وتركض كطفلة دائمة، إلى صدر أمها أو ركبيتي أبيها.
مهما كبرنا أو تطورت حياتنا وتوسعت مداركنا، في تلك الدقيقة تحديدا، لا نملك إلا أن نرتجف. (الغد)
في طريقه من المطبخ إلى غرفة الجلوس، مر من أمام غرفتها المطفأة، وسارع الخطى حتى لا تخذله إرادته، ويضعف قبالة باب الغرفة. إنما ولأنها إرادة بشرية، كان يجب أن تخذله، وتعيده إلى الوراء خطوات قليلة، وتدفعه لاستراق النظر فقط من طرف الباب. لكن شيطان "الماشوسيه" غلبه مجددا ورمى به في حضن الغرفة الفارغة تماما، إلا من سرير مفرد مرتب جدا، تستند على ظهره دمى الدببة الملونة، وتجاوره تسريحة صغيرة، لم تتجرد بعد من "الكراكيب" المزعجة، قلادات معلقة على طرف المرآة، زجاجات عطر شبه فارغة وغيرها فارغة تماما، مجموعة طلاء أظافر بألوان تنرفز العين "هنا كان يبتسم"، وصورتها القديمة مع صاحباتها، في آخر يوم في المدرسة، تتوسط رأس المرآة. هنا.. لم يملك إلا أن ينهار أمام ابتسامتها البريئة، وشقاوة عينيها، ويرتمي على سريرها الخالي، تتلقفه وسادتها الطرية، يدفن داخلها جرح صوته ودمع عينه.
لم يعرف أن يحدد مشاعره بالضبط، ما بين إحساس بالغيرة والخوف عليها، وحزنه على فراقها وخسارته لطفلته، التي لم تعد طفلة بعد اليوم. ليس بعد أن انتقلت يدها الصغيرة الناعمة المرتجفة، من كفه هو إلى كف رجل آخر هذا المساء. فالليلة كانت ابنته تزف إلى عريسها، في حفل عرس ولا أجمل، كانت هي الملكة فيه بثوبها الأبيض النقي، وضمة ورد الأوركيدا على ذراعها النحيلة، وابتسامتها الرقيقة لعريسها الذي كان "سيأكلها بنظراته"، طبعا من وجهة نظر أبيها!
لم يجرب هذا الاحساس من قبل، وهو أب لعدة أولاد وبنت واحدة. إنما كان يؤلمه كثيرا سفر الشباب إلى الدراسة مثلا، أو للعمل في دول الخليج. لكنه ألم محتمل ومسيطر عليه. يستغرب شعوره بالغيظ والحرمان الذي تولد لديه، من لحظة دخولها سيارة عريسها، إلى الآن. يستغرب كيف استطاع أن يرسم على وجهه ابتسامة كاذبة، بل ويضحك من قلبه ليجامل الأقارب والأصدقاء، بينما والدتها تقريبا لم تغادر حمام القاعة، تصلح مكياجها وتكفكف دموعها، وتعود لتصلح مكياجها مجددا. يستغرب جدا أنه رقص تلك الليلة.. رقص معها ومع عريسها بدون أن يرف له جفن!
الآن فقط، فهم دموع والد زوجته، ورفضه أن يكمل معهم حفل الزواج، بحجة المرض، ذات أصيل.
فعلا ما أصعبها من دقيقة طويلة، تلك التي تغادر فيها البنت عتبة الدار، وتلتفت برقبتها إلى الوراء، في نظرة أخيرة لحكايتها الأولى، تلتقي فيها عيناها بعيني والديها، فتشيح بهما بسرعة قبل أن تضعف وتركض كطفلة دائمة، إلى صدر أمها أو ركبيتي أبيها.
مهما كبرنا أو تطورت حياتنا وتوسعت مداركنا، في تلك الدقيقة تحديدا، لا نملك إلا أن نرتجف. (الغد)