أن تأتي متأخرا
حنان الشيخ
جو 24 :
غالبا ما تأتي الأشياء المناسبة والجميلة متأخرة! وبالنسبة للـ"أن تأتي متأخرا خير من ألا تأتي أبدا" أعتبرها بصراحة، مرهما يبرد حرقة السؤال عن سبب التأخير في القدوم، غير المبرر في كثير من الأحيان. فالسيدة التي تفني عمرها تحت قدمي زوجها الظالم المتكبر المترفع عن كلمة حانية يتيمة، عادية جدا كصباح الخير مثلا، أو تصبحين على خير، هذه السيدة لن يروق لها كثيرا الحنان المفاجئ الذي سيملأ المكان، أينما حلّت وارتحلت بين الغرف والممرات، في نفس البيت الذي شهد على عنفه الجسدي والنفسي، تاركا خلفه آثارا بعضه محاه الزمن، وآخر لم ولن يفعل أبدا. طبعا الحنان ذاك مرده الضعف عامة، الضعف أمام عوامل التقدم في السن وقلة ذات اليد، والنبذ من الأولاد والمرض الذي لم يحسب له الحساب.
والمبدع الذي يتسلم عنه ابنه جائزة تقدير الدولة المتأخرة جدا لدرجة أنها لم تلحق أنفاسه الأخيرة وهو على فراش المرض، والاهمال والتغييب. قضى آخر أيامه لا تبارح عيناه سماعة الهاتف، يرجوها رنينا يعيد إلى بقايا روحه، روحا تعيده إلى بقاياه. ولده في العادة وبعد أن يلقي كلمات مؤثرة على خشبة المسرح، ويسلم على المسؤولين دامعي العيون، ويلتقط بعض الصور التذكارية، سيعود إلى "راسية" سرير المرحوم، ويضع الدرع التكريمي على المنضدة المجاورة، ملاصقا للهاتف الأخرس نفسه، يقرأ على روحه الفاتحة، ويذهب إلى حاله.
والأيتام الذين أكل أعمامهم مالهم وحقهم في ميراث أبيهم، تحت جنح ظلام الليل، وظلمة التآمر على أولاد من المؤكد سيضيعون، لو أنهم تمكنوا من المال والحلال، طالما "الغريبة" والتي هي أمهم ما تزال على قيد الوجود. لتفعل المستحيل تلك الغريبة وتربيهم وتعلمهم، من رموش عينيها، ومن تحت أظفارها المسودة، من لف الدوالي وتقطيع السبانخ. كيف ستكون فرحتهم بالمال الذي عاد، قليلا هزيلا متأخرا عن مساءات جوعهم، وإساءات ديونهم.
والرجل الذي لم ير ضوء الشمس إلا في طريقه إلى صلاة الجمعة، احدودب ظهره من انحناء كتفيه فوق أي شيء، يؤمّن طلبات البيت طعاما ودراسة ودلالا، في أغلب الأوقات لا يريد أن يحرم منه أهل بيته كما حرمته الدنيا، معتقدا أن من يفني عمره لأجل الآخرين، يحصد في آخر المطاف، نهاية سعيدة لقصته، دون أن يركز في كلمة "نهاية"، وأنها لا يمكن أن إلا أن تكون نهاية، بغض النظر عن شكلها وإخراجها.
يرفع عينيه ذات شمس، ويرى أن النور في "عينيها"، والذي أضاء على عضلة كانت ميتة اسمها القلب، هذا الرجل لن يلحق البقية من عمره وصحته ورغبته في الاستمرار. بل وقدرته في إعادة كتابة القصة من جديد، مع بعض التطوير لشخصيته، وإعطائها دورا انسانيا أكبر، من كونه آلة صراف مالية.
أن يأتي الأمر متأخرا، يعني أنني تقدمت عنه خطوات أعمارا وتجارب، تغنيني عنه وتقويني أمامه حتى لأقول له: شكرا.. لا تأتي أبدا! (الغد)
hanan.alsheik@alghad.jo
غالبا ما تأتي الأشياء المناسبة والجميلة متأخرة! وبالنسبة للـ"أن تأتي متأخرا خير من ألا تأتي أبدا" أعتبرها بصراحة، مرهما يبرد حرقة السؤال عن سبب التأخير في القدوم، غير المبرر في كثير من الأحيان. فالسيدة التي تفني عمرها تحت قدمي زوجها الظالم المتكبر المترفع عن كلمة حانية يتيمة، عادية جدا كصباح الخير مثلا، أو تصبحين على خير، هذه السيدة لن يروق لها كثيرا الحنان المفاجئ الذي سيملأ المكان، أينما حلّت وارتحلت بين الغرف والممرات، في نفس البيت الذي شهد على عنفه الجسدي والنفسي، تاركا خلفه آثارا بعضه محاه الزمن، وآخر لم ولن يفعل أبدا. طبعا الحنان ذاك مرده الضعف عامة، الضعف أمام عوامل التقدم في السن وقلة ذات اليد، والنبذ من الأولاد والمرض الذي لم يحسب له الحساب.
والمبدع الذي يتسلم عنه ابنه جائزة تقدير الدولة المتأخرة جدا لدرجة أنها لم تلحق أنفاسه الأخيرة وهو على فراش المرض، والاهمال والتغييب. قضى آخر أيامه لا تبارح عيناه سماعة الهاتف، يرجوها رنينا يعيد إلى بقايا روحه، روحا تعيده إلى بقاياه. ولده في العادة وبعد أن يلقي كلمات مؤثرة على خشبة المسرح، ويسلم على المسؤولين دامعي العيون، ويلتقط بعض الصور التذكارية، سيعود إلى "راسية" سرير المرحوم، ويضع الدرع التكريمي على المنضدة المجاورة، ملاصقا للهاتف الأخرس نفسه، يقرأ على روحه الفاتحة، ويذهب إلى حاله.
والأيتام الذين أكل أعمامهم مالهم وحقهم في ميراث أبيهم، تحت جنح ظلام الليل، وظلمة التآمر على أولاد من المؤكد سيضيعون، لو أنهم تمكنوا من المال والحلال، طالما "الغريبة" والتي هي أمهم ما تزال على قيد الوجود. لتفعل المستحيل تلك الغريبة وتربيهم وتعلمهم، من رموش عينيها، ومن تحت أظفارها المسودة، من لف الدوالي وتقطيع السبانخ. كيف ستكون فرحتهم بالمال الذي عاد، قليلا هزيلا متأخرا عن مساءات جوعهم، وإساءات ديونهم.
والرجل الذي لم ير ضوء الشمس إلا في طريقه إلى صلاة الجمعة، احدودب ظهره من انحناء كتفيه فوق أي شيء، يؤمّن طلبات البيت طعاما ودراسة ودلالا، في أغلب الأوقات لا يريد أن يحرم منه أهل بيته كما حرمته الدنيا، معتقدا أن من يفني عمره لأجل الآخرين، يحصد في آخر المطاف، نهاية سعيدة لقصته، دون أن يركز في كلمة "نهاية"، وأنها لا يمكن أن إلا أن تكون نهاية، بغض النظر عن شكلها وإخراجها.
يرفع عينيه ذات شمس، ويرى أن النور في "عينيها"، والذي أضاء على عضلة كانت ميتة اسمها القلب، هذا الرجل لن يلحق البقية من عمره وصحته ورغبته في الاستمرار. بل وقدرته في إعادة كتابة القصة من جديد، مع بعض التطوير لشخصيته، وإعطائها دورا انسانيا أكبر، من كونه آلة صراف مالية.
أن يأتي الأمر متأخرا، يعني أنني تقدمت عنه خطوات أعمارا وتجارب، تغنيني عنه وتقويني أمامه حتى لأقول له: شكرا.. لا تأتي أبدا! (الغد)
hanan.alsheik@alghad.jo