الأردن وإسراٸيل : علاقات مضطربة في إقليم ملتهب
شبلي حسن العجارمة
جو 24 :
#المقدمات:
اتفاقية السلام التي تم تأبينها في مهدها لم تخرج من ضيق الورق لاتساع الأفق,وما إن جف حبرها حتی تيبست ما بين أن لفحتها شمس الحقيقة ونشفتها رياح الفشل العاتية ,بهذه الاستهلالية الأصدق ألخص فحوی ما ذهب إليه مٶلف کتاب "الأردن وإسراٸيل علاقات مضطربة في إقليم ملتهب" البروفسور حسن البراري ,نبوءة الصدام الحتمي بين الأردن وإسراٸيل لا تعني للکاتب البراري مجرد تأملات لشاعرٍ حالم في مقهی رومانسي عابر,أو مجرد مصادفة التوقع بالحدث فحسب ,بل إنني لأذکر تماماً قبل أربعة أعوام حين بدأت علاقتي الشخصية بالبراري ذات مساء علی دعوةٍ منه لي علی مأدبةٍ للعشاء ,أذکر بالضبط أخر سٶالٍ وجهته للبراري عن ما ينتظر المنطقة وتحديداً بٶرة الصراع العربي الإسراٸيلي فيما يخص جزٸية الأردن كون الرجل خير من سبر أغوار هذه القضية وطوف بکل عقد إشکاليتها , فعندها تنهد البراري قليلا وانحسر موج الدبلوماسية عن صدق صراحته المثمرة التيٕ عهدتها به حين قال لي ذلك المثل " إحنا مثل الي بربي الجزار الصغير المسکين علی ذبح عجوله ,ورح يجي يوم علی هذا الجزار يقوی زنده وتکبر سکينه ولمن ما بلاقي عجول لن يجد إلا رقابنا ليجزرها ,باختصار نحن من يربي بجزاره ثم هز رأسه ",وأذکر تماماً تلك الابتسامة المحسورة وهو يمثل لي بلغة الجسد حين وضع يده اليمنی وحزها علی يده اليسری ,ثم قال لي " مثلما تبحث عن مستقبل ٍ أمن لابنك أنا کذلك لا أجامل ولو من باب مستقبل عاٸلتي ونفسي علی ميزان أضعف الأيمان ,يا صديقي لا أری ما يلوح في الأفق علی أبعد مدی أكثر من خمسين عاماً ستکون هنالك مواجهة حتمية ,وصدام أردني إسراٸيلي واقع لا محالة شاء من شاء وأبی من أبی".
لم تکن هذه النبوءة هاجس من أجل کسب الشهرة قد أرق البراري ,بقدر ما کان إعادة تقييم وتحليل بعد مرور عشرين عاماً علی معاهدة السلام الأردنية الاسراٸيلية التي صادفت عام 2014 وهو العام الذي صدر فيه کتاب البراري بطبعته الأولی باللغة الإنجليزية,ثم عاد الکاتب في عام 2019 ليدق ناقوس النبوءة والقناعة مٶکداً لرٶاه فأصدر الطبعة الثانية باللغة العربية علی صداء صفعة القرن المشٶومة .
کتاب البراري ليس کأي کتاب عاديّ,إذ لا تستطيع الولوج منه دون أن تلقي نظرةً علی مقدمته کعکازٍ يضيء للقاریء بقية حقاٸق الدهاليز المتشعبة للقضايا الهامة التي يعرضها الکتاب بکل تجرد وشفافية,إذ يأتي بالرأي والرأي المقابل ضمن فنيات التقابلات السردية ليترك القناعات للقاریء والمهتم بهذا الشأن .
أن مقدمتا الکتاب للطبعتين تحملان عبارتين اعتبرتا أهم المحاور التي غزل الکاتب علی مناولهما الحکاية ,إذ استهل مقدمة الطبعة الثانية العربية باقتباسٍ من مسرحية العاصفة لشکسبير إذ تقول "الماضي هو الفاتحة",کما استهل في مقدمة الطبعة الأولی أيضاً عبارة لشکسبير من مسرحيته 'هنري الرابع' إذ تقول " لا يستقر قرار للرأس الذي يحمل التاج".
وما بين هذين الاقتباسين تدور فراسة النبوءة لحسن البراري الذي يحشد لإثباتهما کل طاقاته الفکرية والتحليلية والتي أوصلته وأوصلتنا في نهاية حياکة القميص الذي قد قُد من دبرٍ للخيط الذي لظم به إبرة البداية وهو عنوان الکتاب الذي أحسبه قد عنا به الکاتب عبارة موجزة وحقيقةً ساخرة لصيغة لا تحتمل إلا علامة تعجبٍ أو سٶال ولا خيار ثالث دونهما من علامات الترقيم ,لتضيق بعنوانه هذا کل أفاق التنظيرالذي لا يتکیء علی عصا الحقيقة بل ويذهب لأبعد من ذلك إذ يحسبه البراري بأنه مجرد إفراط للتفاٶل لا مبرر له وإٛسراف في التأمل الحالم به في مرحلة أحرج ما يقال عنها وأدق ما تکون عبر هذا الصراع بكل أشکاله .
إسقاط البراري لعبارة شکسبير الماضي هو الفاتحة حقيقة مرة نتجرعها وواقع مٶلم نقاسيه وهو بعبارةٍ أخری يقول لنا الکاتب بما أن الصراع الذي بدأ من الأطماع الصهيونية بغرض بسط النفوذ علی الأرض والجغرافيا والتاريخ والعقيدة والإنسان وهذا هو محور وفکرة اليهود في البداية فکيف للعدو الصهيوني والغريم التقليدي الذي خاض حرباً من أجل هذه الأرض بکل أبعادها التي ذکرناها فکيف له أن يتخلی عما سلبه تحت وابل النار فقط بسياسة ودبلوماسية رذاذ عبارات المجاملة والتخجيل والانبطاح العربي ومد الکف البيضاء الخالية من السلاح ليتم حسم القضية بين عشية وضحاها ?.
إن السلام المزعوم ما بين الفلسطينين والاسراٸيليين شيٸا لم يکن ولن يکون وأبعد ما ينال علی أرض الوقع ومسطحات الورق ,ولأن روافع عملية السلام لم تتوفر أصلاً لإتمام هذا الأمر ,بل إن أسوأ ما في القضية هو ذلك التحول والانعطاف المفاجیء المعلن أن الولايات المتحدة التي تبنت القضية کوسيط بريء وطرف محايد صارت هي عامل الإشکال الرٸيس وربما عاملاً وعضواً فاعلين في رفد هذا الإشکال المعقد إذ تخلت عن دورها کجزٸية من الحل ,وأن صفقة القرن ما هي إلا مصادرة لکل ملف القضية الفلسطينية,وحتی بات من ضروب القناعة أيضاً للطرفين المتنازعين أن لعاعة حل الدولتين هو هدف ينتمي للاستحالة من الدرجة السابعة ,ويدلل البراري علی ذلك بثلاثة حقاٸق دامغة علی مسرح القضية وهي أن ألة الاستيطان الاسراٸيلية المتغولة علی قضم الأراضي الفلسطينية لم تتوقف بتاتاً وهذا أهم جزء حتی يستحيل مبادلة الأرض المغصوبة مقابل السلام هذا الحلم المنشود ,ولم يتأتی هذا من فراغ بل يعزيه البراري هو أسر القوی التي تمتلك المتطلبات السياسية الداخلية کأداة ضاغطة علی حکومات إسراٸيل المتعاقبة التي لم تمکنهم بالتالي للإيفاء والوفاءً لما يبرم في الاتفاقيات مع الفلسطينين ,کما أن السبب الثاني عدم وجود قاٸد إسراٸيلي له الإرادة والقرار السياسي لتخطي ضغوطات تلك السياسة الداخلية ,وثالث هذه الأسباب وهو جوهر تفسير حتمية عدم تحقق السلام أنه عدم التزام أي من الطرفين بسلام حقيقي قد يحقق المصالح الحيوية لکليهما ,وکما يقول البراري أن تناقض هذه المصالح يجعل استحالة تحقيق أي تقدم حيوي علی أرض الواقع .
رسمية الموقف الأردني عام 1967 اتكأت علی فکرة الأرض مقابل السلام من أجل ضمان البقاء للکيان الأردني أنذاك ,علما أن الملك الحسين کان مٶمن بأن اتفاقية وادي عربة ليست سلاماً يکتسب صفة المثالية المطلقة , لکن الاستراتيجية التي اعتمدها هو أن معاهدة السلام أقل ما يمکن سيسمح للأردن بالبقاء والازدهار,لذا قيل أنه لم يتکرر بعد رجل أنضج وأثر في عملية السلام أکثر أو مثل الملك الراحل الحسين بن طلال .
لذا إبان التسويق لعملية السلام من قبل عبدالسلام المجالي رٸيس الوزراء أن ذاك فقد تبنی نشر فکرة أن السلام مع إسراٸيل سيلغي فکرة الوطن البديل للأبد,لأن فکرة الوطن البديل ما هي إلا فزاعة سياسية ترعب الأردنيين ,وهذا ما يثير حفيظتهم بسبب عدم تحقق تقدم علی المسار الفلسطيني مثلما تلاشت عواٸد السلام ومن ثم تبخرت بهذا الاتجاه .
الإسراٸيليون علی مستوی الخبراء والساسة وقعوا في مغبة الرٶية المستحيلة لفصل العلاقات الأردنية الاسراٸيلية وعدم ربطها بالتعثر مع الطرف الأخر للنزاع وجوهر القضية وهو الفلسطيني وهذا عاملُ من عوامل سوء الاستشراف للمستقبل لدی ساسة إسراٸيل .
علی جانب الإحباط وخيبة الأمل وتلاشي فرص حل النزاع علی الصعيد العربي بنوع من ندب الحظ ولطم الخد وشق الجيوب دون أدنی وساٸل البحث عن خيارات أخری أو أدوات ضاغطة في هذه اللعبة الصعبة , إلا أن الأخر الإسراٸيلي لا يکل ولا يمل من مجرد التفکير ووضع البداٸل والخيارات التي تخرجهم بحلة النصر الداٸم الأبدي مثل طرح فکرة الدولة ثناٸية القومية بما أن جميع الحلول الإقليمية قد فشلت وتلاشت.
قادة الفکر السياسي الاسراٸيلي وعلی مدار أربعين عاماً کانوا يقومون بکل ما من شأنه تقويض بل واستحالة خيار حل الدولتين کواقع لفض النزاع والذي جاء علی شاکلة ضربات استباقية مثل قانون القومية الجدلي العنصري والنشاط الاستيطاني الذي لم يتوقف لهذه اللحظة وکل هذا ترجمة لخداع والتفاف الاسراٸيليون علی أي أمل ممکن أو قريب أو بعيد محتمل .
مخاوف الاسراٸيليون أهمها هو الأمن المحقق وهذا ما حدا بهم لرفض فکرة حل الدولتين وقد تلاشت بعض مخاوفهم بعد انتهاء حقبة الحرب الباردة وهزيمة العراق عام 1991 وهذا ما عزز بند الأمن المطمٸن في معاهدة وادي عربة .
التجربة الإسراٸيلة التي جلبت لها الويلات ولم تحقق لهم السلام الشامل والمأمول هو الانسحاب الأحادي الجانب من قطاع غزة فيما يسميه البراري عملية تخلي إسراٸيل عن کورديور فيلادلفيا الذي کان يفصل سيناء عن غزة والذي قد مکن حماس من إدخال السلاح وتزويده للقطاع حيث شنت إسراٸيل ثلاثة هجومات علی القطاع ,حيث اعتبرت هذه التجربة درساً قرٕأه الإسراٸيليون جيداً وسيقومون بشتی أنواع التشويش علی أي حلٍ يفضي للتخلي عن شبر من الأرض التي يسيطرون عليها .
حلاً جديداً نادی بفکرته "غيور إيلاند " ,وهو الحل الإقليمي والذي يفضي لسيطرة الأردن علی الضفة الغربية لمنع وصول لمن وصفهم بالمتطرفين ,لأنه علی حد ما يقوله إيلاند أن أي انسحاب وشيك لإسراٸيل هو إحلال سريٛع لحماس وهذا ما سيشکل تحديات وتهديدات أمنية الأمر الذي تخشاه وتضعه علی أعلی درجات التفکير والأولويات من الجانب الإسراٸيلي ,وإن مسوغات الحل الإقليمي لدی إيغور لها أربع فواٸد ,أولها أن الصراع سينتقل من بين شعب ومحتل لصراع أعلی وسيكون بين دولتين هما الأردن وإسراٸيل ,وأن الرفع من شأن هذا الصراع بين دولتين من شأنه تخفيف الضغوط للأسرة الدولية علی إسراٸيل وإجبارها علی تنازلات مکروهة ,وثانيهما هو إمکانية تقديم تنازلات مضمونة ومحققة عن الأرض من الجانب الأردني أکثر من الفلسطيني ,وثالث مسوغته أن الثقة الإسراٸيلية بالقيادة الأردنية أکثر منها في الجانب الفلسطيني لسجل الأردن الممتاز بالالتزام بالمعاهدات ٕوالاتفاقيات الدولية بالذات فيما يتعلق بحماية الحدود والأمن,وأخر المسوغات هو أن دولة فلسطين مستقلة سيجعلها ضعيفة وتشکل عبٸاً علی إسراٸيل بالذات بفروقات البنی التحتية والوظاٸف مما سيشکل عبٸاً أخلاقياً علی إسراٸيل تجاه المجتمع الدولي ,لکن في ظل هذا الحل الإقليمي بالنسبة للأردنيين والفلسطينين هو حل سيشکل فقراً سياسياً لکلي مستقبليهما ناهيك عن ما يشکله هذا الحل من حساسية مفرطة لکلا الجانبين بالذات للأردن تحديداً ,حيث سيعود علی الأردن بنتاٸج عکسية کاستقراره الداخلي الأمر الذي حدا بالکاتب البراري أن استحالة تقبل الأردن لأي حلً محتمل سوی حل الدولتين وأن أي بديل له هو تهديداً إستراتيجياً علی مستقبل الأردن في المديين القريب والبعيد .
اختلاف وجهات النظر الأردنية الاسراٸيلية تجاه الحلول الجذرية لحل الصراع المقبول به برغم وجود معاهدة السلام بينمها يری الأردن أن سياسة الغطرسة الإسراٸيلية وتعنتها هو من مهددات ٕأمن الأردن الوطني علی المدی البعيد والقريب ,حيث يصل الکاتب بنهايةٍ مفتوحةٍ أولی لهذا التمهيد المکثف مفادها أن إسراٸيل بهذه السياسات المتعنته إن لم تُردع ستجهز علی فرصة حل الدولتين وإلی الأبد ,وهذا ما عناه الکاتب بتناقض الاستراتيجيات الأردنية الاسراٸيلية علی أرض الواقع .
علی وقع هذه الخاتمة لمقدمات الکتاب المهمة أنوه هنا لأمرٍ هام وهو أن مراجعة هذا الکتاب لأهمية ما فيه هو ضرورة ملحة تناسب واقع التصريحات الاسراٸيلية ومدی جديتها وکذلك الردود الأردنية بالتعاطي مع هذه التصريحات ومدی جديتها ,لذا حاولت کشفت اللثام هنا عن محاور الکتاب الرٸيسية لسرد أهم التفاصيل المحورية في کل ما طرأ علی هذا الملف الشاٸك ,فستکون الحلقة القادمة عن تحول مرحلة النظام الأمني ما بين الأردن وإسراٸيل إلی سلام قانوني ذو أبعاد دولية وعالمية,فمن خدم هذا السلام القانوني المتحول من نظام لقانون ,ومدی حصول الطرفين أو أحدهما علی ثمار هذا السلام ?,هذا ما سيکون في حلقتتا القادمة بإذن الله للإحاطة بکل الجوانب الهامة والأهم .