jo24_banner
jo24_banner

عُقوبةُ السَّلام

د.كمال الزغول
جو 24 :
 في البداية ،اريد ان استذكر كتاب ( نهاية الحرب ، وبناء السلام بعد الصراع الأهلي) للباحث البروفسور رولاند باريس، حيث يتحدث فيه عن إعادة تأهيل الدول بعد الحروب، وقد وجد أن محاولة تحويل الدول التي مزقتها الحرب إلى ديمقراطيات ليبرالية عن طريق ايجاد السوق الحرة فيها بشكل مباشر تأتي بنتائج عكسية. وذلك بسبب تفضيل السوق الحرة بليبراليتها على فرض القانون وبناء الدول ومؤسساتها بصورة تدريجية .
الغريب هنا ، أن فكرة الليبرالية الساقطة بالمظلات الاحتلالية ما زالت تُعتمد رغم فشلها ،والأشد غرابة هو نكران التجربة الفاشلة عند احتلال العراق وعدة دول اخرى، ومحاولة تطبيقها واغراء الشعب الفلسطيني بالسَّلام الاقتصادي ومن خلال ليبرالية السوق الحرة ،وبالرغم أن هذا السلام الاقتصادي طُبق في الحروب الاهلية برعاية المحتل ،الا انه هنا في الوضع الفلسطيني مختلف،فهناك محتل قائم ويريد أن يصنع سلاما مع نفسه من اجل بقائه ،وهو في الاساس عبارة عن عقاب للشعب الفلسطيني كما فهمه الشعب العراقي جيدا ولم يقبل به حتى هذه اللحظة .
بناء على ما ذُكر في كتاب رولاند باريس، وتجربة "عُقوبة السَّلام" في العراق وفي افغانستان ، فإن اسرائيل تحاول دائما معاقبة الشعب الفلسطيني بالقوة المفرطة بيد ،و"بعقوبة السلام" بيد اخرى،والسبب وراء ذلك ان صراع اسرائيل مع وجودها هو أعنف بالنسبة لها من صراعها مع الفلسطينيين ،فهي تتذكر دائما انها ليست الا سياسة مُسقطَة من آخرين، وليست دولة ذاتية دائمة بصعود أبدي، ولذلك هي تخاف على نفسها من الزوال مع زوال الاستراتيجيات السياسية للدول المنتجة لها،وبهذا الفهم دائما تسعى لصياغة سلام تعاقب به مُقاوميها.
إن هذا الصراع الداخلي بين اسرائيل واستمراريتها لا يتأتى الا بصمود الفلسطينيين وحتى وإن بقي المحتل ،لأن صمودهم يجعل هذا المحتل بحاجة للبقاء وبقاؤه هو في السَّلام القاتم ، فالمقاومة إن لم تحقق انتصارات تبقى عائقا كبيرا أمام ديمومة الكيان الإسرائيلي الذي يعتمد في قبوله في الشرق الأوسط على بيئة المصالح الدولية ،والتي هي ايضا تتقلب في كل زمان ،فعبر التاريخ تغيرت قوة الامبراطوريات وأصبح لها مصالح أخرى ، وتبدلت سياساتها.
إن فكرة التسليم بالأمر الواقع هي بداية الهزيمة ،وبنفس الوقت هي بداية ديمومة اسرائيل في الاراضي المحتلة ،ولا يعرف هذه النظرية الا من قاوم عقوداً من الزمان وابقى اسرائيل تعيش دائما في فزع دائم، وجعلها تسعى بكل الوسائل غريقة في نظريات المحافظة على بقائها.
وعليه، فإن فكرة السلام والقبول بالأمر الواقع هما في الأصل عقوبة تحل بالشعوب المنكوبة مثلما هي الحروب الفتاكة ،وفي ظل هيمنة النظريات الاقتصادية لا فرق بين الحرب والسلام ،ففي الحرب تُضحي الامة بابنائها كشهداء لكنها تقاتل من أجل استعادة اراضيها ، وفي السّلم المصطنع تُضحي بمواردها الاقتصادية للبنك وصندوق النقد الدوليين من أجل اعادة اعمار ما دُمّر منها في الحرب مع الحجز على ثرواتها ، ففي الأولى تُبنى الملاجئ للسكان هربا من القتل ،وفي الثانية ،تُبنى الملاجئ لإخلاء الارض من اجل بناء الفنادق وقاعات المؤتمرات والمناطق الخضراء لإعادة الإعمار ،وتصبح المدن بديلة لتشكيل البدائل من الأوطان ،و يأتي الإحلال بالإستبعاد، والأثرياء ينتعشون بمناطق الفقراء ،والبطالة تكثر في اماكن اللجوء،والتدخل الإقليمي يصل الى حد التملك، تلك هي "عُقوبة السَّلام" .
 
تابعو الأردن 24 على google news