طبائع الإستبداد و المثقف و السلطة... حوار هاديء مع صديق ..!
عدنان الروسان
جو 24 :
ان الميل الى التهجين المتزايد بين الديمقراطيات و الأنظمة الإستبدادية ليس بدعة حديثة العهد فقد استقرت في وجدان روما القديمة التي لم تكن بحاجة لها أصلا لولا أن عصور التنوير التي كانت تظهر بين الحين و الآخر كانت تفرض على الملوك التلفع بالديمقراطية و لو مع شريحة محددة من الشعب ( الطبقة الأرستقراطية او البرجوازية الشعبية حسب بعض التصنيفات ) ليحاربوا الكنيسة و البابوية بواسطتها حيث كان التزاحم بين السلطتين الدينية و الزمنية كبيرا وصل حد الحروب و الدمار ، و في العصر الحديث تم استنساخ نظرية التهجين تلك فلاقت رواجا لدى ألأنظمة السياسية الغربية الديمقراطية و الأنظمة المستبدة بحيث يمكن ممارسة الإستبداد في أعمق صوره الموصوفة من قبل علماء السياسة و الإجتماع و لكن بغطاء ديمقراطي يحفظ على الحاكم المستبد ما يكفي من ماء الوجه أمام الديمقراطيات التي يتعامل معها و لا يستطيع الإستغناء عن دعمها و مساعدتها و خدماتها و يخلق بواسطتها طبقة من المثقفين الذين يصبح بين أيديهم موضوع يتسلون به في كتاباتهم للعامة .
و مصطلح الديكتاتورية كما الديمقراطية يخضع لتفسيرات و معان متعدد بعيدة في كثير من الأحيان عن المعنى التقني الأكاديمي ، و من هنا نجد الإستخدام الجائر من قبل الأنظمة الإستبدادية لمصطلح الديمقراطية و الذي لم يعد مفهوما و لا محددا بل منسجما مع الحالة الإستبدادية المعاشة و العلاقة بين الناس و النظام ، و يقع المحظور حينما يتناكف النظام السياسي مع المثقفين و يعتبرهم أدوات حينما يكون ولائهم مطلقا و خصوما و أعداء حينما يظهرون بعض الخلاف مع النهج السياسي و طريقة ادارة السلطة للبلاد ، أنا اتكلم هنا بصورة عامة تندرج على الحالة السائدة التي تعيشها منطقتنا و كثيرا من المناطق التي تشبهنا و يبقى الخلاف محتدما بين المثقف و السلطة حول المعنى الحقيقي للديكتاتورية التي يبدو أنه ليس هناك دراسة منهجية لمفهوم الديكتاتورية على الأقل في الأنظمة التي تستخدمها.
غير أنني و في حوار مع صديق مثقف عميق قال لي في معرض حديثه أنا ( عن نفسه ) مثلا مصنف أنني مثقف سحيج و أنت مصنف أنك معارض و كانت تلك جملة معترضة لضرورات استيفاء الحوار حقه و ايصال الفكرة بصورة واضحة غير أنني بدأت أشك بعد ساعتين من الحوار من منا السحيج و من منا المعارض ( مع كل الإحترام و التقدير لكل الناس فالبعض ينفر من وصف سحيج و معه حق ) بكل الأحوال صديقي الموظف ليس سحيجا و رغم أنني استخدم احيانا فيما أكتب هذا المصطلح الا أنني لا أعني به كل من يختلف معي في الراي و الرؤيا بل شريحة محددة من الناس خاصة في اوساط المثقفين و النخبة ان جاز التعبير .
صديقي على درجة عالية من الثقافة و الإدراك العميق لما يدور حولنا و لديه رؤية منطقية لما يجري ربما أكثر شمولية مما امتلكه أنا من رؤية لأنه ينظر للأمور من زاوية لم أتمكن من الوقوف فيها و النظر من خلالها بسبب الإختلاف في الخبرات التي مر بها كل منا و ذلك طبيعي في الحياة فلكل رؤيته ، غير ان ما يحير هو التمكن من توظيف الفكر و مجموعة القيم المجتمعية و التراثية و موائمة البعد المادي و الأخلاقي لإنتاج رؤية قادرة على الصمود في اي حوار يجري في تفكيك فلسفة العلاقة بين المثقف و السلطة و هي امور متشابكة بصورة شديدة التعقيد غير أن كل فكرة على حدة فيها من الجوانب الإيجابية التي تستحق النقاش و الحوار العميق و الإنفتاح على الآخر و التحوط من رغبة الإقصاء لمجرد الإختلاف في الرؤيا او الخلاف في مسائل الحوار نفسها و هذا لا ينطبق على حوارنا صديقي وانا بل كان حوارا ايجابيا و منتجا و حضاريا .
لن نتمكن جميعنا من الإتفاق بسهولة على ثوابت مشتركة تجاه الوطن و النهج السياسي و تقييم مخرجات السلطة على الصعد السياسية و الإقتصادية و الإجتماعية و حول التنمية السياسية المستدامة و ضوابط السلطة اذا لم تتوافر شروط الحوار المنفتح البعيد عن الهوى و التحليل الرغائبي و اذا لم يوجد الحد الأدنى من الضمانات التي تحمي الحوار و المحاورين من بطش السلطة او بعض ادواتها و اذا كان الخوف هو العامل الرئيس المسيطر على أفكار الناس و بالتالي تتقلص مساحات الحوار حتى لا تصطدم مع ما تريد السلطة و يصبح المثقف رهينة الخوف او الطمع فقط.
إن كلفة الحوار و النقاش حول سبل الإصلاح السياسي و التحول من التشدد الى حالة من الإنفتاح على الأخر شيء في صالح النظام بكل تأكيد وهي أقل بكثير من كلفة الإستمرار في نهج التشدد و الإنغلاق ، و ان ما يقوم به بعض مثقفي السلطة من محاولات لتعبئة صانع القرار ضد من يبدون معارضين او المعارضين المتشددين ايضا هي محاولات للحفاظ على مكتسبات أولئك المثقفين أنفسهم الذين باتوا جزءا من النظام و ليس جزءا ممن يخدمون مصالح النظام بل يخدمون مصالهم الشخصية فقط.
لسنا ضد أن يكون للمثقف حصة في أو من النظام ، سواء كان وظيفة او مصلحة مادية فتلك حقوق موجودة في كل الأنظمة الديمقراطية ايضا شريطة أن تبقى وظيفة المثقف وظيفة وطنية تحافظ على النظام كجزء من الوطن و ترعى مصالحه من خلال التأشير على مصالح بقية مكونات الوطن ايضا دون أن يتخلى عن دوره الإصلاحي و المراقب لما يحدث كسلطة محايدة و شريفة لا سلطة محرضة على الأخرين.
تقول مايا هيرتيج راندال ، أستاذة القانون الدستوري السويسري والأوروبي في جامعة جنيف: "تحمي حرية الرأي حاجة إنسانية أساسية" ، و تستند فكرة حرية الرأي إلى افتراض التنوير بأننا جميعًا نفكر ، وكائنات عقلانية تشكل رأيها من خلال الحوار.
و تتابع هيرتيج: "من أجل الديمقراطية ، تعتبر حرية الرأي وأيضًا حرية الإعلام أمورًا أساسية". الشيء نفسه ينطبق على البحث: "التقدم ممكن فقط إذا كان من الممكن الطعن في الرأي السائد".
هذا هو السبب في أن حرية الرأي هي حق من حقوق الإنسان ، منصوص عليها ، من بين أمور أخرى ، في المادة 10 من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان والمادة 19 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية للأمم المتحدة.
لقد كان لقائي مع صديقي المثقف مساحة حوار هاديء و صريح و بدون لحظات خوف من قول كل ما نفكر فيه بشأن ما كنا نتحدث عنه ، و هذا شيء فوق انه مفيد فهو ممتع و يعطينا الكثير من الأمل في توسيع مساحات الحوار الوطني اذا شاء أصحاب القرار و أرادوا ..
و ان لله رجال اذا ارادوا أراد ...