الربيع الفكري اولا ..
الربيع واحد ، والاستبداد واحد ، سواء أكان في منطقتنا او كان في الاتحاد السوفيتي واوروبا الشرقية سابقا او في بقية دول العالم التي خلصت من قوى الاستبداد والأسوار الحديدية وقمع الحريات وحولت بلادها الى دول ديموقراطية اتقنت احترام الحرية وبناء حضارة تسارعت فيها معايير التنمية والحرية واحترام حقوق البشر ،فما عاناه المواطن الروسي او الالماني الشرقي " المعتقل " خلف سور برلين او حتى ممن قتلهم الديكتاتور تشاوسيسكو كانوا عاشوا بظروف سياسية واقتصادية واجتماعية اسوأ مما عاشه مواطننا العربي في مصر وسوريا وليبيا وغيرها ،لكن المشهد مختلف هنا في بلادنا ،فالعقلية مختلفة ، والصراع مختلف ، وأدوات الصراع والتنافس مختلفة ، فالمنظومة الشرقية كاملة بزعامة الاتحاد السوفيتي القوي تنهار ، وتتحول اوروبا الشرقية الى دول ديموقراطية وتنتقل بسهولة الى اوروبا "الديموقراطية "دون اراقة دم واحده باستثناء من سقط في رومانيا وانتهت بمقتل المجرم شاوسيسكو لأنه اطلق النار على المواطنين المطالبين بالحرية والديموقراطية ، وانطلقت فيها معاول البناء والتنمية وتعايش الناس بحضارية رفيعة خطوات الانتقال الى المجتمع الجديد ،وأقُرت قوانين ديموقراطية ناظمة للحياة فيها حتى استقرت ونمت وارتاح مواطنها واصابه ترف العيش كما في بقية الدول الغربية من اوروبا ،وكل ذلك حدث في اقل من عامين ..
ربيعنا العربي تحول إلى ملاجئ ومقابر مفتوحة ،وقتل وجز رقاب واحتلال وطوائف ونزعات وتقسيم الدولة ونهب الخيرات واغتصاب الحرائر والتفجيرات ومواجهات حتى بين اصحاب الفكر والعقيدة الواحدة .
الربيع العربي الذي أخذ اسمه زورا من ربيع براغ، ترك من حوله عشرات آلاف القتلى. فقد تصدعت وحدة سوريا والقتل مستمر فوق 130 الف قتيل حتى اللحظة ، ، ووحدة مصر مهددة والحالة لازالت مأزومة ، ووحدة العراق مهددة بمزيد من الانقسام ، ووحدة لبنان قاتمة والطائفية سيدة الموقف ، والفرقة في تونس واضحة، وليبيا على حافة السقوط في مهاوي الفرق الأجنبيةوالمليشيات الاجرامية والعصابات ...
يبدو أننا نحتاج لربيع " فكري " حضاري قبل ان نتحول لربيع عربي في ظل تشوهات فكرية وعقليات ادمنت القتل والاستبداد وطريقة النضال من أجل الحرية والاستقلال والمطالبة بحقوقها ، ودون ذاك الربيع " الفكري " المبني على الوعي والتسامح والمحبة وفهم التطور وحتمية انتصار الحق ونهاية عصر الاستبداد وبناء الدول بطريقة حضارية مدنية بعيدة عن العنف والقتل واستباحة رقاب الأخرين فلن نصل لنتيجة ،وبدل أن نسعى لنصبح منظومة عربية متحدة، فاعلة، قوية، مؤثرة بمن حولها من منظومات العالم الأخرى، التي توحدت وارتبطت بعضها ببعض اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا رغم الاختلافات الفارقة العظيمة ، سيبقى الحال هو الحال كما ترونه اليوم ، وحتى لو تحققت مطالب الربيع في الحرية والديموقراطية والعدالة والتنمية ، فأن المعاناة ستستمر هنا ، لأننا لم نهيء انفسنا لتلك التغييرات ، وفهمنا ان الحرية لا حدود ولا ضوابط اخلاقية لها ، فخرج الناس للمشاركة في" الاعراس الوطنية "بالمال والبلطجة ودعم الاجهزة واحتلوا معها كل مؤسساتنا التي كنا نحلم ذات يوم انها ستكون هي الدولة ، وحتى فهم الطالب في المدرسة أن نجاحه وبلوغه الهدف لا يتأتى إلا بالغش والبلطجة وحمل السلاح !
لازلنا امام تحد كبير ، فلازلنا نعتقد ان الربيع العربي هو الاختراق الاخلاقي لكل القيم ، واعتقدنا ايضا انه الفرصة المواتية لاستعراض قوتنا والتمادي اكثر حتى لو مارسنا الخداع والكذب والبلطجة وتدمير مؤسسات الوطن ، وبتنا ننتظر أن يقع الوطن لنستل سكاكينا ونجهز عليه ،وهي نتيجة منظومة فكرية عمرها يزيد على مئات السنين عملت الانظمة العربية على خلقها وبثها ، وصار أن قيل إن لم تكن ذئبا أكلت الذئاب ،وإن لم تكن فاسدا مستبدا عشت محروما فقيرا ..وحتى تتبدل تلك المعايير فعلينا العمل على تثقيف الناس وتوعيتهم بكل الطرق لنخلق معها تغييرا فكريا يقودنا الى ربيع حضاري سلمي لا دموي