تونس تجتاز الأزمة بعقلية قبول الآخر
جرى استكمال المرحلة الانتقالية في تونس على نحو هادئ وسلس، بعدما تمكن المجلس الوطني التأسيسي من إقرار الدستور الجديد بغالبية ساحقة، وبعدما أمكن التوافق على أن تتولى حكومة تكنوقراط الفترة المتبقية من المرحلة الانتقالية وان تشرف على الانتخابات المقبلة.
اجتياز المرحلة الانتقالية بأقل قدر من الخسائر والاضطرابات الأمنية، وحصلت تونس على دستور توافقي ينقل البلاد من حال التفرقة بين المواطنين إلى المساواة، خصوصاً بين النساء والرجال، ومن نظام الحزب الواحد إلى التعددية السياسية وضمان الحريات العامة بما فيها حرية المعتقد الديني، ومن الاستبداد إلى الديموقراطية، ومن الفساد والمحسوبية ونهب المال العام إلى دولة القانون والمكاشفة.
بدأت «النهضة» تعيد حساباتها السياسية ، وراحت تقدم التنازلات، بدءاً بالتخلي عن مبدأ الاحتكار الحكومي والقبول بحكومة تكنوقراط تشرف على ما تبقى من المرحلة الانتقالية، وما انطوى عليه من تخل عن شرعية انتخابية، وصولاً إلى تفاهمات على الدستور مع خصومها السياسيين، خصوصاً حركة «نداء تونس» و «الجبهة الشعبية»، بما يعزز الدولة المدنية والتعددية.
تتحاور تونس في الصحف والمنتديات والمؤتمرات وليس في متفجرات مقار الأمن والميادين . وتقرأ نقدا واسعا لكتاب أصدرته الرئاسة فيتراجع الرئيس المرزوقي وليس النقّاد، لست أفهم لماذا التقليل من مدى التجربة التونسية، صحيح أنها لم تصبح سويسرا بعد، وقد يستغرقها ذلك أضعاف ما استغرق هنيبعل في حملة روما، ولكن تونس فاجأت العرب مرة أخرى في أصول الحوار وتقبل الآخر.
تبتعد تونس طويلا ثم تعود فتصبح في قلب الدائرة العربية كبلد مغاربي صغير وله أصداء بعيدة. والقدوة، في أي حال، ليس راشد الغنوشي، بل المجتمع المدني، رغم بعض مظاهر العتم.
المشهد في تونس اليوم جيّدا حتى وإن بدأ أنه هدنة مؤقته ، والفرصة سانحة والأمل قائم في أن تقطع البلاد خطوات هامّة في اتجاه الاستقرار وانجاح تجربتي الثورة والانتقال الديمقراطي بعد التوافقات الأخيرة وحصادها الإيجابي حيث لا بُدّ من الشروع الآن في نزع الألغام وتفكيك منظومات الشحن الايديولوجي والعقائدي والإعلامي، والتخلّي عن شيطنة المُخالفين .
في مصر ، وصل الوضع إلى ما وصل إليه بفعل ما فعله "الإخوان" خلال وجودهم في السلطة وبعد عزلهم عنها، ففي السلطة أظهروا شهوة لا حدود لها للاستئثار بالحكم، رافضين الاعتراف بكل المطالب الشعبية، ولجأوا إلى الإعلانات الدستورية من أجل الالتفاف على مقاومة المجتمع المدني وأحزابه . لقد رفضوا الاعتراف بكل الواقع الجديد الناشئ في مصر بعد تنحي مبارك، وتصرفوا كأي حاكم مستبد، عاملين على «أخونة» السلطة والإمساك بكل مفاصلها، رافضين كل مساومة مع المجتمع المدني ومنظماته والأحزاب السياسية المدنية والديموقراطية والليبرالية، وفي الوقت نفسه استهدفوا المؤسسة العسكرية، لكونها المؤسسة التي تتمتع تاريخياً باستقلال ما في إدارة شؤونها، فعادوا كل أطياف المجتمع المصري وهيئاته. وبعد انتخاب السيسي، سيكون السلوك «الإخواني» السياسي والأمني من التبريرات التي يقدمها الحكم الجديد للعودة إلى أساليب أسلافه، أي أن الاخوان في مصر اعتمدوا سياسة تتناقض كلياً مع تلك التي اعتمدها فرعهم التونسي، والنتيجة أنهم خرجوا من العمل السياسي. وبدل أن يتوقفوا عند أسباب هزيمتهم ويراجعوا تجربتهم، تراهم يندفعون أكثر فأكثر نحو العنف والتجاور مع منظمات إرهابية. إنهم يمارسون ذلك النوع القاتل من الغطرسة، في حين أن «النهضة» اعتمدت الواقعية السياسية والليونة والتنازل،فكان الاستقرار والبناء هناك ، وكان الدم والقتل والتفجير والفوضى هنا ....
اسوأ ما في استبداد الحزب الواحد " الحاكم " أنه يفتح شهية العسكر للتحرك واسقاط هذا الحزب حتى لو أتى عبر صناديق الاقتراع بحجة الاستجابة لمطالب الناس !
مصر وقعت في هذا الفخ وتونس تجاوزته ، ومرد ذلك الى العقلية التي أدارت الازمات هنا او هناك ..