تعديلات دستورية جوهرية هي مخرج الأردن من أزمته السياسية
الدستور في أي بلد هو جملة القواعد التي تحدد طبيعة النظام السياسي في الدولة ومهام السلطات المختلفة فيها وتنظم علاقاتها يبعضها البعض كما أن الدستور هو الناظم لعلاقة الحاكم بالمحكومين إذ أن مثل هذه العلاقة أصبحت، خصوصا في الدول الديمقراطية ، علاقة مستندة للشرعية التي اتفق عليها من قبل ممثلي الأمة وتم تضمينها للدستور. الدستور هو المرجع الذي تحتكم إلية السلطات بمؤسساتها المختلفة تماما مثلما يعتبر الوثيقة الأسمى التي ينبغي أن لا تتعارض معها القوانين والأنظمة والتعليمات والقرارات التي تتخذها السلطات السياسية في الدولة. والدساتير ليست نواميس جامدة لا تتغير فالظروف والمعطيات الاجتماعية والسياسية تتبدل مع الزمن مما يستوجب تعديلا وتغييرات في الدستور نفسه لتتواءم مع خصائص المجتمع وتطلعات مواطنيه.صحيح أن الدساتير وبنودها وفقراتها وموادها تصاغ عادة بعمومية لتستوعب ظروفا مختلفة وعلى مدار فترات زمنية متباعدة وترك للقوانين أن تكون أكثر تفصيلا للتجاوب مع متطلبات المجتمع وظروفه ولكن بعض الدساتير في الدول النامية وضعت في ظروف كانت مجتمعات هذه الدول تعاني من التخلف والفقر والجهل والأمية مما جعل هذه الدساتير تتصف بطابع هيمنة الحكام وتمتعهم بسلطات هائلة ووضعتهم بمراتب أعلى من البشر وجعلت شتمهم وانتقادهم جريمة ربما أشد وأعتى من شتم الخالق لا بل ساعدت على إعطاء الحكام بعض صفات الإلوهية والعياذ بالله. إن مثل هكذا دساتير لا ينفع معها التعديل والتبديل السطحي لمادة هنا أو هناك لأن القاعدة العامة والروح التي استقيت منه المواد الأساسية في الدستور وبنوده أصبحت لا تتناسب مع روح العصر ولا مع خصائص المجتمع آخذين بالحسبان أن المجتمعات النامية ومنها المجتمع الأردني قد شهدت تغيرات جذرية وجوهرية عصفت بالمعطيات والمبررات الكثيرة للدستور الحالي .
أما بالنسبة للوضع في الأردن فإن الدستور الأردني بتعديلاته المختلفة ابتداءا بالنظام الأساسي لإمارة شرق الأردن 1928 مرورا بدستور 1946 ودستور 1952 وتعديلاته المختلفة وانتهاءا بالتعديلات الأخيرة عام 2011 يحتاج إلى إعادة نظر جوهرية تطال أهم المواد والفقرات فيه وليس تعديلات شكلية وتجميلية . التعديلات الأخيرة في الدستور كثيرة وطالت بحدود أربعون مادة منه ولكن هذه التعديلات لم تغير أهم ملامح هذا الدستور والدليل على ذلك استمرار الخلاف والجدل بين فئات وشرائح وأطراف سياسية رئيسية في المجتمع الأردني . الدستور الأردني مثل معظم الدساتير فيه بضعة مواد لا تتجاوز 6-10 مواد تشكل عصب القواعد الناظمة للحياة السياسية في الدولة وهي في وضعنا الأردني ثلاث مواد لم يطالها أي تغيير أو تعديل وهذه المواد هي (34،35،36 ) وهي مواد تتعلق بصلاحيات الملك في حل مجلسي النواب والأعيان وتعيين رئيس الوزراء والوزراء وإقالتهم وتعيين أعضاء مجلس الأعيان . نعم هذه المواد الثلاث تشكل عصب الدستور الأردني وهي الناظمة لشكل ومحتوى الحياة السياسية في المملكة وبدون تعديلها يبقى الدستور على حاله وتبقى التعديلات التي يدعي النظام السياسي بأنها شامله لأكثر من ثلث الدستور تعديلات صورية وشكلية. المواد المعدلة لا تغير في طبيعة الحياة السياسية في الأردن ومن يستمع لمطالب وشعارات الحراك السياسي يرى أن هذه المطالب تدور في جلها ومعظمها حول المواد الرئيسية الثلاث المشار إليها آنفا.
من مصلحة النظام السياسي أن يجري تعديلات على الدستور وتحديدا في المواد الثلاث المتصلة بصلاحيات الملك الواسعة وتشكيل مجلس الأعيان . لا بأس أن يخسر الملك بعض أو كثير من صلاحياته خيرا من أن يخسر النظام السياسي الأردني والوطن عموما استقراره وأمنه . الأردنيون الذين صاغوا الدستور عام 1952 كان بذهنهم مجتمع أردني 80% منهم لا يقرأون ولا يكتبون ومجتمع يسوده تفكير قبلي صرف وأعراف عشائرية ويحكمه قانون العشائر ولا تحكمه المؤسسات الحكومة وكانوا ينظرون إلى علاقتهم بالحاكم على أنها علاقة زعيم القبيلة أو العشيرة برعاياه وأتباعه وليست علاقة موقع قيادي يستمد شرعيته من الشعب . الملك كما يردد أتباع النظام ومؤيديه يستمد شرعيته من الدين ومن التاريخ (شرعية دينية وشرعية تاريخية) وقلما أسمع من يقول أنه يستمد شرعيته من الشعب ونحن نقول بأنه ينبغي أن تستمد شرعية الملك من الدستور الذي نتحاور حوله ونتوافق عليه لا أن يناط تعديله وصياغته بستة أو ثمانية أشخاص من لون واحد ومن طيف واحد ومعظمهم موظفين سابقين موالين حتى النخاع ودون وجود شخص واحد من المعارضة ليصار بعد ذلك إلى إقرار تعديلات سطحية من قبل مجلس نواب عدد كبير من أعضاءه صنعوا تزويرا بأيدي المخابرات العامة حسب تصريحات رئيسها السابق .
لن يهدأ الأردن ولن تستقر أموره بالضحك على الذقون والالتفاف على مطالب الناس .الأردنيون يريدون أن يعيدوا صياغة العلاقة بينهم وبين النظام وقيادته ولن يتأتى ذلك دون تعديل المواد الدستورية الثلاث التي أشرنا لها سابقا.الأردنيون لم يعد يناسبهم دستور صنعه وصاغه أجدادنا الأوائل بخلفيات ورؤى ومعطيات مجتمعية تغيرت وتبدلت عدة مرات منذ ستون عاما. الأردنيون في عام 2012 ليسوا هم الأردنيون عام 1952 ويستحقون صياغة جديدة لقواعد اللعبة السياسية الناظمة لعلاقاتهم بقيادتهم ولتركيبة وتكوين سلطاتهم التشريعية والتنفيذية والقضائية بغير ذلك سيبقى الحراك ملتهبا والصراع محتملا والانفجار متوقعا.