دائرة التجريم في قانون الجرائم الالكترونية لا تطال الصحفيين
المحامي صدام ابو عزام
جو 24 : إنشغل الرأي العام الاردني منذ صدور قرار ديوان تفسير القوانين رقم 8 لعام 2015 الخاص بتفسير المادة 11 من قانون الجرائم الالكترونية بالتحليل والتعليق على مضمون هذا القرار، ولعل حمى هذا النقاش إرتفعت حين لجاء الادعاء العام بالاحالة والاستناد على المادة 11 عند تقديم الشكاوى بحق الصحفيين، وشكل نص المادة المشار اليه السند القانوني في التطبيق. وبات الكل يشير الى تداعيات هذا القرار على حرية الرأي والتعبير بشكل خاص والحريات العامة بشكل عام، وتأثير القرار على سقف الحريات في الاردن.
بعيداً عن تحليل المشهد ووجهات النظر السائدة حيال مقتضيات التفسير بين مؤيد ومعارض، حيث إنبرى للتحليل العديد من الذوات والقانونيين والمختصين والمهتمين والمعنيينن بالشأن العام والشأن المهني وعلى رأسهم نقابة الصحفيين.
وبعيداً عن وجهات النظر السائدة ودون المساس بحرية الرأي والتعبير لكل طرف تصدى للتحليل والتعليق وبمعزل عن المزاودة العلمية أو المساس بالذوات أو المؤسسات ذات العلاقة ومن باب التعليق المستند الى وجهة نظر مستنده الى اصول قواعد التفسير يمكننا التعليق على ذلك على النحو التالي:
* التأصيل التاريخي
إن استدعاء الادبيات القانونية ذات العلاقة بقوانين الجرائم الالكترونية تطالعنا بتعريف بسيط من ان الجريمة الالكترونية تكمن في أي سلوك غير قانوني يتم بإستخدام الاجهزة الالكترونية، ينتج عنها حصول المجرم على فوائد مادية أو معنوية، وهدف هذه الجريمة هو القرصنة من أجل السرقة أو إتلاف المعلومات او الافشاء، الاطلاع، وعرف هذا النوع من الجرائم في مراحله الاولى منذ ستينيات القرن الماضي وكان الشكل السائد لهذه الجريمة التلاعب في البيانات المخزنة، وفي تطور لأشكال الجريمة في المرحلة التي تليها في ثمنينيات القرن ظهر شكل جديد لهذه الجريمة تمثل في اقتحام الانظمة ونشر الفيروسات.
اما المرحلة الاخيرة من تطور هذه الجرائم شهدت تنامي في اشكال الجرائم الالكترونية مرد ذلك الانتشار الواسع للإستخدامات الالكترونية والتكنولوجيه ودخولها كافة مناحي الحياة مما أضاف اشكال وأفعال جديدة لإرتكاب هذه الجرائم، الامر الذي أدى الى زيادة الحالة المطلبية لتقنين وشرعنة قانون خاص يعاقب كل تلك الافعال، حتى لا تبقى بقعة سوداء في التشريعات الوطنية لدى كافة الدول، وظهر العديد من التسميات لهذه الجرائم مثل جرائم الحاسوب والانترنت Computer Crim، وجرائم التقنية العالية Hitesh Crimeأو الجريمة السايبرية Cyber Crim.
بل وازدادت الحالة المطلبية اكثر في تطور لافت لأشكال الجريمة حيث أضحت عابرة للقارات، وتنادت المنظمات والهيئات الدولية لضرورة الاسراع في استحداث اتفاقيات خاصة تحدد أوجه إرتكاب تلك الجرائم، وصدر عن منظمة الامم المتحدة وبعض الهيئات الاقليمية جملة من الاتفاقيات التي تحدد مجموعة من التدابير القضائية والعلاجية والادارية والتشريعية للدول في طريق سعيها لمكافحة هذه الجرائم.
واشار الى تعريف الجريمة الالكترونية العديد من الهيئات الدولية والاقليمية ومنها على سبيل المثال اللجنة الاوروبية بأن الجريمة الالكترونية تشمل كل مظاهر الجريمة مثل الغش وتزييف المعلومات ونشر مواد الكترونية ذات محتوى مخل بالاخلاق أو دعوى لفتن طائفية، كما اشارت الى ذلك وزارة العدل في الولايات المتحدة الامريكية التي عرفت الجريمة بأنها أي جريمة لفاعلها معرفة فنية بتقنية الحاسبات تمكنه من ارتكابها، وحسب منظمة التعاون الاقتصادي للجريمة المرتكبة عبر الانترنت هي كل سلوك غير مشروع أو غير أخلاقي أو غير مصرح به، يتعلق بالمعالجة الالية للبيانات ونقلها.
وتأسيساً على ما سبق يمكننا القول بأن الجريمة الالكترونية هي الجريمة التي تتم بإستخدام جهاز الكمبيوتر من خلال الاتصال بالإنترنت ويكون هدفها إختراق الشبكات أو تخريبها أو التحريف أو التزوير أو السرقة والاختلاس أو قرصنة وسرقة حقوق الملكية الفكرية، فهي نوع مخصوص من الجرائم فرضه التطور التكنولوجي الحديث ومحل هذه الجريمة هو وسائل التواصل الالكتروني وهي جريمة تكون الغاية منها السرقة والاختراق والتزوير أو القرصنة أو سرقة حقوق الملكية الفكرية أو الاتلاف أو النشر أو الافشاء، ووسيلة إرتكابها تكمن في الدخول غير المرخص أو غير المصرح له به، بمعنى لا يمكن ان تقوم اركان الجريمية الا من خلال دخول غير مشروع.
* انواع واشكال الجريمة
لعل التقسيم الفقهي يطالعنا بأن هذه الجريمة يمكن أن ترتكب ضد الافراد وتسمى بجرائم الانترنت الشخصية وتتمثل في سرقة الهوية والبريد الالكتروني أو سرقة الاشتراك في موقع شبكة الانترنت أو انتحال شخصية عبر الانترنت. والجرائم ضد الملكية وتتمثل في نقل البرمجيات الضارة الموجودة في البرامج التطبيقية والخدمية أو غيرها، بهدف تدمير الاجهزة أو البرامج المملوكة للشركات أو الاجهزة الحكومية أو البنوك أو حتى الممتلكات الشخصية. والنوع الاخير هو الجرائم ضد الحكومات ويتمثل هذا الشكل في مهاجمة المواقع الرسمية وأنظمة الشبكات الحكومية كالهجمات الارهابية على شبكة الانترنت، وهي تتركز على تدمير البنى التحتية ومهاجمة شبكات الكمبيوتر وغالباً ما يكون هدفها سياسي وإنتقامي من الانظمة السياسية أو بهدف الابتزاز السياسي وغير ذلك من اهداف، ويمكن الحديث عن انواع الجرائم الالكترونية بشكل مختصر على النحو التالي:
أولا: الجريمة المادية:
هي التي تسبب أضراراً مالية للضحية وتأخذ شكل عملية السرقة الإلكترونية كالاستيلاء على ماكينات الصرف الآلي والبنوك ونسخ البيانات الالكترونية لبطاقات الائتمان والصراف الالي وغيرها من اشكال الخدمات المصرفية وانشاء مواقع الكترونية وهمية للبنوك وشركات الخدمات المصرفية، والطلب من العملاء تعبأة معلوماتهم البنكية، ومن ضمن الاشكال المستحدثة ايضاً هو إرسال الايميلات والرسائل الاكترونية لطلب المساعدة في تحويل مبالغ مالية عاليه محتجزة في دول والاتفاق على نسبة لمن يساعد في تحويلها، وكذلك الايهام بالفوز بجائزة وانتشر هذا النوع من الجرائم في افريقيا.
الاردن كغيرة من دول العالم إختبر خطر هذه الجرائم في عدد من العصابات التي قدمت الى الشرق الاوسط والى الاردن تحديداً وتنفيذ العديد من الجرائم، وكان قدوم مثل هذه العصابات مبنياً على دراسات بأن الاطار القانوني في الاردن لا يعاقب على مثل هذه الجرائم وفي حال وجود بعض العقوبات تصنف بالبسيطة مقارنة مع نظيرتها في الدول الاخرى، وعليه تنبه المشرع وصار الى اقرار قانون الجرائم الالكترونية لتلافي الثغرات التشريعية.
ثانيا: جريمة الملكية الفكرية:
وهي استيلاء الجاني على الحقوق الفكرية والثقافية من دون موافقة الضحية مثل قرصنة البرمجيات من خلال نسخ أو تقليد لبرامج إحدى الشركات بأي طريقة على اسطوانات وبيعها والتصرف فيها دون مراعاة القوانين والانظمة أو موافقة المالك الاصلي لها، أو من خلال التعدي على القنوات الفضائية المشفرة وإتاحتها عن طريق الانترنت تقنية (soft copy) ، وكذلك جريمة نسخ المؤلفات العلمية والأدبية بالطرق الالكترونية المستحدثة وغير ذلك من جرائم فكرية الهدف منها الاعتداء على ملكية البرامج أو محتواها.
ثالثا: الجريمة الارهابية:
وهي متطورة بشكل مستمر وكانت خلال هذا القرن الاكثر شيوعاً واستخداماً حيث لجأت الجماعات الارهابية وعصابات الاشرار لإستخدام تقنية المعلومات لتسهيل ارتكاب جرائمهم أو تعميمها أو تضليل الرأي العام أو استقطاب الاشخاص والاتصال والتنسيق فيما بينهم وبث الأخبار المغلوطة وتحويل بعض الأموال لتمويل برامجهم الإرهابية.
رابعا: الجريمة السياسية:
وتكون الغاية من هذه الجريمة الاستيلاء على المواقع الحساسة وسرقة المعلومات والاسرار القومية والوطنية للدول المستهدفة ونشر الفيروسات بهدف الحاق الضرر بمؤسسات الدولة ومرافقها الحساسة بهدف الانتقام من الدولة المستهدفة وهذا النوع ايضاً منتشر وتديره جماعات اشرار وعصابات عبر قطرية.
خامسا: الجريمة الاخلاقية:
تقوم على اساس نشر الأفكار الخاطئة بين الشباب كالإدمان والزنا والعلاقات الجنسية الزائفة لغايات الابتزاز والتقاط الصور والفيديوهات بصور مخلة بالاخلاق والابتزاز بنشرها والتشهير باصحابها، وعادة ما يكون الضحية لها المراهقين والمراهقات من خلال التقاط الصور ومقاطع الفيديو والتهديد بالخروج مع الجاني تحت وطأة النشر.
* السياق الوطني الاردني
عند تعقب قانون الجرائم الالكترونية نجد بأن فكرة القانون بدأت تظهر للملاء منذ عام 2010 وكان منشأها وزارة تكنولوجيا المعلومات واشار الناطق الاعلامي للحكومة أنذاك ان الدافع لوضع القانون ظهور واكتشاف عصبات اشرار قاموا بالاعتداء على البطاقات الائتمانية لبعض الاشخاص وسرقة مقتنياتهم المالية قدموا من بعض الدول الافريقية، ومن جهة أخرى اعتداء بعض الهواة " القراصنة " على بعض المعلومات وأمكان تخرينها وإختراق الحسابات المؤسسية لها بهدف الاعتداء عليها أو افشاء الاسرار المتعلقة بها، وكانت بداية القانون بالقانون المؤقت لعام 2010.
ولعل التطبيق العملي للقضايا المحالة من الاجهزة الامنية ولا سيما من مديرية البحث الجنائي تشير الى أن التطبيق الصحيح للقانون هو جرائم الحاسوب بالمعنى الذي تم الاشارة اليه سابقاً حيث وصلت الجرائم التي تم احالتها عام 2010 الى 600 قضية بين التشهير والابتزاز والاعتداء على البرامج وانتحال الهوية وغيرها، وحوالي 1300 جريمة إلكترونية خلال عام 2013 حسب الاحصاءات الرسمية، وأن 75% من ضحايا تلك الجرائم هم من النساء وكذلك الاعتداء على الحسابات المصرفية وتحويل الاموال، وفي عام 2014 تم الاعلان عن انشاء مركز لمكافحة الجرائم الإلكترونية والتهديدات الأمنية الإلكترونية التي تستهدف القطاعات المالية والأمن القومي بالأردن، تحت إشراف وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات.
* في أدوات التفسير
المقصود بالتفسير في اللغة هو البيان والوضوح والظهور، ومن هذا المنطلق فإن المقصود بتفسير القانون هو بيان وإيضاح النصوص القانونية حتى تكون ظاهرة وواضحة، لكي يسهل تطبيقها والاستناد إليها ودراستها والبحث فيها، والنصوص القانونية الواضحة لا تحتاج إلى تفسير ولا يجوز تأويلها إلى مدلول غير مدلولها الواضح والمقصود، في حين أن النصوص القانونية غير الواضحة المعنى والناقصة أو الغامضة يتعذر تطبيقها ولذلك ينبغي تفسيرها لتحديد معناها.
فالتفسير هو بيان الحكم القانوني الأمثل الذي يفهم من النص لتطبيقه على الأفراد بواسطة القضاء أو غيره من وسائل وطرق التفسير وبأدوات التفسير، والمقصود بتفسير القانون تحديد مضمون القاعدة القانونية والتعرف على عناصرها وأوصافها، حتى يمكن بذلك تحديد نطاقها من حيث الموضوع والتحقق من مدى انطباقها على الحالات العملية.
الا أن موضوع التفسير يتم اللجوء إليه في عند نشوء حالات معينه " اسباب التفسير" وليس أمراً اعتباطياً لا ضوابط له ومن ضمن هذه الحالات الخطاء المادي في النصوص القانونية ويتم ازالة هذا الخطاء من خلال المؤسسات ذات العلاقة والاختصاص بإصدار التشريع، والحالة الاخرى هي غموض النص القانوني والتي تحتمل عباراته أكثر من معنى أو مدلول، وحينئذ على القاضي أو الجهة المختصة بالتفسير، وهو بصدد تفسير النص، الأخذ بالمفهوم الأقرب إلى الصواب، بشرط مراعاة بنية التشريع الكلية وقواعد أصول التفسير، والترتيب بين المصادر الرسمية للتفسير وغير الرسمية وذلك للحصول على حكم النص وغاية المشرع. ويتم اللجوء الى التفسير في حال النقص في النص القانوني أي عندما يسكت المشرع عن ايراد بعض الالفاظ أو الاحكام وهنا يتم اللجوء الى طرق التفسري شريطة مراعاة قواعد واصول التفسير.
والحالة الاخيرة هي حال تناقض النصوص القانونية أي عند تعارض نصين قانونيين في موضوع واحد بمعنى أن ينطبق نصان قانونيان على واقعة واحدة أو أن تتعارض احكام النصوص فيظهر إستحالة في التطبيق، وفي حالة قانون الجرائم الالكترونية للوهلة الاولى يجد القارئ بأن هناك تعارض ظاهري بين النصوص ففي الوقت الذي يعاقب قانون المطبوعات والنشر على الذم والقدح والتحقير، فإن قانون جرائم انظمة المعلومات يهيّئ للبعض انه يشمل بالتغطية القانونية ذات الحالات، فوفقاً لقواعد واصول التفسير في مثل وجود هذه الحالة ينبغي أن نعتبر النص الجديد ناسخاً للنص القديم المتعارض معه وملغياً له هذا ما يجب اعمالة في حالة التعارض واستحالة التطبيق بين النصين، ولا يتم اللجوء الى إعمال قاعدة الخاص والعام بإعتبار انه يتم اللجوء اليها عند تنظيم نص امراً بكلياته ويأتي نص ينظم مسألة فرعية يمكن شمولها في النص العام ففي مثل هذه الحالة يتم إعمال الاخاص يقيد العام، وهي غير منطبقة على حالتنا هذه.
اما في حال ان كان النصين يغطيان ذات الحالة والواقعة وتم المعاقبة عليها في ذات القانونين فهذا لا يحتاج الى تفسير بل يعتبر هذا بمثابة تخبط في السياسة التشريعة الوطنية وعدم وضوح للرؤيا وغموض في السياسة العامة التشريعية، ويؤدي الى خلق مراكز قانونية متضاربة ويفقد التشريع أحد ركائز ومقومات وجودة الاساسية وهي ضمان الحقوق والحريات، فكيف يلاحق اليوم شخص على فعل معين ويعاقب بعقوبة وفقاً لتشريع معين وبعد فترة بسيطة يلاحق عن ذات الفعل على نصوص قانون أخر يختلف في فلسفة العقوبات عن القانون الاول واجراءات محاكمة مختلفة كلياً، إن وجود مثل هذه الحالة يشكل إهداراً حقيقياً للضمانات الدستورية للحثقوق والحريات بل ويعتبر تعدياً صارخاً على حقوق الافراد.
في حالتنا مدار البحث نجد أن هذا ما استشكل على البعض في أن هناك تعارض بين قانون المطبوعات والنشر وقانون الجرائم الالكترونية متوهماً على انه يتم إعمال العام والخاص في مثل هذه الحالة، وفي حقيقة الامر نجد أن التعارض ظاهري لا اساس ولا وجود له في الوقت الذي يغطي قانون المطبوعات والنشر جرائم المطبوعات والنشر ويحدد الأطر العامة لها، فإن قانون الجرائم الالكترونية يطال بالتغطية القانونية الجرائم التي ترتكب بواسطة الشبكة العنكبوتية والتي لا تتجاوز الجرائم والحالات التي تم الاشارة اليها، ولا يكون فاعلها معلوماً للملاء فالصحفي والاعلامي والكاتب وغيرهم يقوم بكاتبة وتغطية خبره الصحفي وهو معلوم للجميع كاشف عن اسمه وعنوانه، في حين أن مرتكب جرائم الكمبيوتر شخص أو عصابة أشرار لها اهداف سياسية أو اقتصادية أو اخلاقية أو فكرية من ارتكاب الجريمة الالكترونية.
ففي مثل هذه الحالة لا يتم اإمال طرق التفسير الداخلية وهي العام والخاص والاستنتاج بطريق القياس والاستنتاج من باب اولى أو الاستنتاج من مفهوم المخالفة، لأن الطرق الخارجية للقاعدة القانونية محل التفسير لم تتوحد ويتم اللجوء الى الطرق الداخلية عند وجود نصوص متعارضة أو غامضة في ذات التشريع.
اما عند نشوب غموض أو ابهام في بناء قانوني- قواعد قانونية مختلفة- قانونيين مختلفين- فإن من المتوجب إعمال طرق التفسير الخارجية لإستظهار الحالة وإزالة الغموض والابهام وإجلاء للمعنى والغاية الحقيقية القابعة في جوهر النص لا ظاهرة، وهذه الطرق الخارجية هي:
اولا: حكمة التشريع "غاية التشريع":
لأن المشرع حينما يضع النصوص القانونية تكون له غايات يريد تحقيقها من النصوص التشريعية، وهي عادة ما يتم الاعراب عنها من خلال الأسباب الموجبة. لذلك، فإن إستخلاص القاضي عند تفسيره للنصوص والأهداف والحكم والغايات التي إبتغاها المشرع من تلك النصوص يوضح معانيها ويفسرها ويٌسهل تطبيقها، وعليه فإن الاسباب الموجبة لقانون الجرائم الالكترونية جاءت لحماية أمن المعلومات الوطني والقومي من الاعتداء والسرقة والعبث أو استخدام شبكة المعلومات في أفعال غير أخلاقية، والحفاظ على المعلومات الائتمانية وتمويل الاعمال الارهابية، اما قانون المطبوعات والنشر فإن الاسباب الموجبة له تكمن في تعزيز حرية الرأي والتعبير ولضمان عدم توقيف الصحفيين وتنظيم عمل المطبوعات الدورية وغيرها، وضمانات المحاكمة العادلة وعدم الاطالة فيها، فإي إختلاف بيَن وظاهر بين الاسباب الموجبة لكلا القانونيين. واضح وجلي للعيان لا يترك مجالاً للشل في تعارض قواعد كل منهما، فالمادة 11 تغطي حالات محددة تتعلق بالدخول غير المشروع لانظمة المعلومات وتقنياتها وبرامجها واستخدام الذم والقدح والتحقير.
ثانيا: الأعمال التحضيرية:
وهي مجموعة الأعمال التي تسبق صدور القانون وتتمثل في المذكرات التفسيرية للقانون والمذكرات الايضاحية التي تعد وترفق بمشروع القانون وأي مشروع قانون لتعديل قانون قائم، بالإضافة إلى كافة المناقشات ومحاضر جلسات البرلمان والتي تم فيها مناقشة نصوص وأحكام القانون بما في ذلك نقاشات ومحاضر اللجان الحكومية والمؤسسات التي ناقشت القانون. فمن خلال الاطلاع على تلك المذكرات والمحاضر والوثائق يستطيع القاضي معرفة القصد والغاية الحقيقية للمشرع من النص أو القانون ومن ثم معرفة معاني النصوص القانونية، وكما سلف فإن نظرة بسيطة للسيرة الذاتية لقانون الجرائم الالكترونية نجد بدون عنا أن فلسفة هذا القانون مغايرة تماماً لما ذهب اليه البعض كلياً وتختلف إختلافاً بيناً لا لبس فيه حيث أشرفت وزارة تكنولجويا المعلومات على إنضاج وإخراج المسودة الاولى لمشروع القانون، وكان مجمل النقاشات يصب في حماية المعلومات الالكترونية، وعليه فإن كافة الاعمال التحضيرية للقانون تفيد بأنه جاء لتحقيق هذه الغاية، في حين أن غاية قانون المطبوعات والنشر واضحة لا لبس فيها ايضاً في التطبيق على الصحفيين والمواقع والصحف وهو القانون ذي المساس المباشر بحرية الرأي والتعبير.
امام كل هذه المعطيات يمكننا أن نجمل القول بأن قانون الجرائم الالكترونية يطال بالتجريم حالات وجرائم ويلاحق اشخاصاً لا يطالهم قانون المطبوعات والنشر والذي رسم الأطر العامة للتعامل مع الصحفيين والمواقع والصحف ونظم المحاكمات العادلة للصحفيين وآليات ترخيص المطبوعات بكافة انواعها، وأن اللبس والابهام الذي أستشكل على البعض هو تعارض ظاهري للنصوص لا حقيقي لها، وان إعمال قواعد التفسير الخارجي لكلا القانونيين يوصلنا الى هذه الحقيقية دون عناء، وعليه فإنه لا يمكن بل من المستحيل ملاحقة كاتب صحفي أو كاتب مقال على المادة 11 من قانون الجرائم الالكترونية البته كون هذا الشخص كشف عن اسمه وهويته والصحيفة التي نشر فيها فهو يجاهر للعلن بما كتب ويهدف اصلاً الى اطلاع الجمهور عليه ولم يرتكب فعلاً أو جريمة الكترونية بالمعنى المراد من المادة 11 من القانون، ويمكن اللجوء الى تطبيق المادة11 لو أن شخص دخل الى أحد المواقع الالكترونية لقرصنة المعلومات وتحريف وتزوير في المعلومات بحيث الحق ضراراً مادياً أو معنوياً بذوات الناس من خلال ذم وقدح وتحقيير ففي مثل هذه الحالة يصار الى تطبيق احكام المادة 11، وغير ذلك يعتبر انحرافاً في التفسير القانوني لمضمون النصوص النشريعية.
هذا ناهيك عن حجم الدمار الذي يلحقة مثل هذا التطبيق بحقوق وحريات الافراد ويهدر ويعصف بالقواعد العامة وضماناتها والتي هي محل اجماع من قبل كافة النظريات القانونية فكيف لنا القول بثنائية النصوص التي تطبق على ذات الفعل، اليوم يتم تطبق نص معين وغداً يتم تطبيق نص أخر على ذات الفعل، ولا يمكننا القول بإعمال قاعدة العام والخاص ايضاً، بإعتبار أن كل قانون ينظم حالة عقابية خاصة ومختلفة هيكلياً عن غيرها، فلا يوجد خاص ولا عام في مثل هذه الحالة.
بعيداً عن تحليل المشهد ووجهات النظر السائدة حيال مقتضيات التفسير بين مؤيد ومعارض، حيث إنبرى للتحليل العديد من الذوات والقانونيين والمختصين والمهتمين والمعنيينن بالشأن العام والشأن المهني وعلى رأسهم نقابة الصحفيين.
وبعيداً عن وجهات النظر السائدة ودون المساس بحرية الرأي والتعبير لكل طرف تصدى للتحليل والتعليق وبمعزل عن المزاودة العلمية أو المساس بالذوات أو المؤسسات ذات العلاقة ومن باب التعليق المستند الى وجهة نظر مستنده الى اصول قواعد التفسير يمكننا التعليق على ذلك على النحو التالي:
* التأصيل التاريخي
إن استدعاء الادبيات القانونية ذات العلاقة بقوانين الجرائم الالكترونية تطالعنا بتعريف بسيط من ان الجريمة الالكترونية تكمن في أي سلوك غير قانوني يتم بإستخدام الاجهزة الالكترونية، ينتج عنها حصول المجرم على فوائد مادية أو معنوية، وهدف هذه الجريمة هو القرصنة من أجل السرقة أو إتلاف المعلومات او الافشاء، الاطلاع، وعرف هذا النوع من الجرائم في مراحله الاولى منذ ستينيات القرن الماضي وكان الشكل السائد لهذه الجريمة التلاعب في البيانات المخزنة، وفي تطور لأشكال الجريمة في المرحلة التي تليها في ثمنينيات القرن ظهر شكل جديد لهذه الجريمة تمثل في اقتحام الانظمة ونشر الفيروسات.
اما المرحلة الاخيرة من تطور هذه الجرائم شهدت تنامي في اشكال الجرائم الالكترونية مرد ذلك الانتشار الواسع للإستخدامات الالكترونية والتكنولوجيه ودخولها كافة مناحي الحياة مما أضاف اشكال وأفعال جديدة لإرتكاب هذه الجرائم، الامر الذي أدى الى زيادة الحالة المطلبية لتقنين وشرعنة قانون خاص يعاقب كل تلك الافعال، حتى لا تبقى بقعة سوداء في التشريعات الوطنية لدى كافة الدول، وظهر العديد من التسميات لهذه الجرائم مثل جرائم الحاسوب والانترنت Computer Crim، وجرائم التقنية العالية Hitesh Crimeأو الجريمة السايبرية Cyber Crim.
بل وازدادت الحالة المطلبية اكثر في تطور لافت لأشكال الجريمة حيث أضحت عابرة للقارات، وتنادت المنظمات والهيئات الدولية لضرورة الاسراع في استحداث اتفاقيات خاصة تحدد أوجه إرتكاب تلك الجرائم، وصدر عن منظمة الامم المتحدة وبعض الهيئات الاقليمية جملة من الاتفاقيات التي تحدد مجموعة من التدابير القضائية والعلاجية والادارية والتشريعية للدول في طريق سعيها لمكافحة هذه الجرائم.
واشار الى تعريف الجريمة الالكترونية العديد من الهيئات الدولية والاقليمية ومنها على سبيل المثال اللجنة الاوروبية بأن الجريمة الالكترونية تشمل كل مظاهر الجريمة مثل الغش وتزييف المعلومات ونشر مواد الكترونية ذات محتوى مخل بالاخلاق أو دعوى لفتن طائفية، كما اشارت الى ذلك وزارة العدل في الولايات المتحدة الامريكية التي عرفت الجريمة بأنها أي جريمة لفاعلها معرفة فنية بتقنية الحاسبات تمكنه من ارتكابها، وحسب منظمة التعاون الاقتصادي للجريمة المرتكبة عبر الانترنت هي كل سلوك غير مشروع أو غير أخلاقي أو غير مصرح به، يتعلق بالمعالجة الالية للبيانات ونقلها.
وتأسيساً على ما سبق يمكننا القول بأن الجريمة الالكترونية هي الجريمة التي تتم بإستخدام جهاز الكمبيوتر من خلال الاتصال بالإنترنت ويكون هدفها إختراق الشبكات أو تخريبها أو التحريف أو التزوير أو السرقة والاختلاس أو قرصنة وسرقة حقوق الملكية الفكرية، فهي نوع مخصوص من الجرائم فرضه التطور التكنولوجي الحديث ومحل هذه الجريمة هو وسائل التواصل الالكتروني وهي جريمة تكون الغاية منها السرقة والاختراق والتزوير أو القرصنة أو سرقة حقوق الملكية الفكرية أو الاتلاف أو النشر أو الافشاء، ووسيلة إرتكابها تكمن في الدخول غير المرخص أو غير المصرح له به، بمعنى لا يمكن ان تقوم اركان الجريمية الا من خلال دخول غير مشروع.
* انواع واشكال الجريمة
لعل التقسيم الفقهي يطالعنا بأن هذه الجريمة يمكن أن ترتكب ضد الافراد وتسمى بجرائم الانترنت الشخصية وتتمثل في سرقة الهوية والبريد الالكتروني أو سرقة الاشتراك في موقع شبكة الانترنت أو انتحال شخصية عبر الانترنت. والجرائم ضد الملكية وتتمثل في نقل البرمجيات الضارة الموجودة في البرامج التطبيقية والخدمية أو غيرها، بهدف تدمير الاجهزة أو البرامج المملوكة للشركات أو الاجهزة الحكومية أو البنوك أو حتى الممتلكات الشخصية. والنوع الاخير هو الجرائم ضد الحكومات ويتمثل هذا الشكل في مهاجمة المواقع الرسمية وأنظمة الشبكات الحكومية كالهجمات الارهابية على شبكة الانترنت، وهي تتركز على تدمير البنى التحتية ومهاجمة شبكات الكمبيوتر وغالباً ما يكون هدفها سياسي وإنتقامي من الانظمة السياسية أو بهدف الابتزاز السياسي وغير ذلك من اهداف، ويمكن الحديث عن انواع الجرائم الالكترونية بشكل مختصر على النحو التالي:
أولا: الجريمة المادية:
هي التي تسبب أضراراً مالية للضحية وتأخذ شكل عملية السرقة الإلكترونية كالاستيلاء على ماكينات الصرف الآلي والبنوك ونسخ البيانات الالكترونية لبطاقات الائتمان والصراف الالي وغيرها من اشكال الخدمات المصرفية وانشاء مواقع الكترونية وهمية للبنوك وشركات الخدمات المصرفية، والطلب من العملاء تعبأة معلوماتهم البنكية، ومن ضمن الاشكال المستحدثة ايضاً هو إرسال الايميلات والرسائل الاكترونية لطلب المساعدة في تحويل مبالغ مالية عاليه محتجزة في دول والاتفاق على نسبة لمن يساعد في تحويلها، وكذلك الايهام بالفوز بجائزة وانتشر هذا النوع من الجرائم في افريقيا.
الاردن كغيرة من دول العالم إختبر خطر هذه الجرائم في عدد من العصابات التي قدمت الى الشرق الاوسط والى الاردن تحديداً وتنفيذ العديد من الجرائم، وكان قدوم مثل هذه العصابات مبنياً على دراسات بأن الاطار القانوني في الاردن لا يعاقب على مثل هذه الجرائم وفي حال وجود بعض العقوبات تصنف بالبسيطة مقارنة مع نظيرتها في الدول الاخرى، وعليه تنبه المشرع وصار الى اقرار قانون الجرائم الالكترونية لتلافي الثغرات التشريعية.
ثانيا: جريمة الملكية الفكرية:
وهي استيلاء الجاني على الحقوق الفكرية والثقافية من دون موافقة الضحية مثل قرصنة البرمجيات من خلال نسخ أو تقليد لبرامج إحدى الشركات بأي طريقة على اسطوانات وبيعها والتصرف فيها دون مراعاة القوانين والانظمة أو موافقة المالك الاصلي لها، أو من خلال التعدي على القنوات الفضائية المشفرة وإتاحتها عن طريق الانترنت تقنية (soft copy) ، وكذلك جريمة نسخ المؤلفات العلمية والأدبية بالطرق الالكترونية المستحدثة وغير ذلك من جرائم فكرية الهدف منها الاعتداء على ملكية البرامج أو محتواها.
ثالثا: الجريمة الارهابية:
وهي متطورة بشكل مستمر وكانت خلال هذا القرن الاكثر شيوعاً واستخداماً حيث لجأت الجماعات الارهابية وعصابات الاشرار لإستخدام تقنية المعلومات لتسهيل ارتكاب جرائمهم أو تعميمها أو تضليل الرأي العام أو استقطاب الاشخاص والاتصال والتنسيق فيما بينهم وبث الأخبار المغلوطة وتحويل بعض الأموال لتمويل برامجهم الإرهابية.
رابعا: الجريمة السياسية:
وتكون الغاية من هذه الجريمة الاستيلاء على المواقع الحساسة وسرقة المعلومات والاسرار القومية والوطنية للدول المستهدفة ونشر الفيروسات بهدف الحاق الضرر بمؤسسات الدولة ومرافقها الحساسة بهدف الانتقام من الدولة المستهدفة وهذا النوع ايضاً منتشر وتديره جماعات اشرار وعصابات عبر قطرية.
خامسا: الجريمة الاخلاقية:
تقوم على اساس نشر الأفكار الخاطئة بين الشباب كالإدمان والزنا والعلاقات الجنسية الزائفة لغايات الابتزاز والتقاط الصور والفيديوهات بصور مخلة بالاخلاق والابتزاز بنشرها والتشهير باصحابها، وعادة ما يكون الضحية لها المراهقين والمراهقات من خلال التقاط الصور ومقاطع الفيديو والتهديد بالخروج مع الجاني تحت وطأة النشر.
* السياق الوطني الاردني
عند تعقب قانون الجرائم الالكترونية نجد بأن فكرة القانون بدأت تظهر للملاء منذ عام 2010 وكان منشأها وزارة تكنولوجيا المعلومات واشار الناطق الاعلامي للحكومة أنذاك ان الدافع لوضع القانون ظهور واكتشاف عصبات اشرار قاموا بالاعتداء على البطاقات الائتمانية لبعض الاشخاص وسرقة مقتنياتهم المالية قدموا من بعض الدول الافريقية، ومن جهة أخرى اعتداء بعض الهواة " القراصنة " على بعض المعلومات وأمكان تخرينها وإختراق الحسابات المؤسسية لها بهدف الاعتداء عليها أو افشاء الاسرار المتعلقة بها، وكانت بداية القانون بالقانون المؤقت لعام 2010.
ولعل التطبيق العملي للقضايا المحالة من الاجهزة الامنية ولا سيما من مديرية البحث الجنائي تشير الى أن التطبيق الصحيح للقانون هو جرائم الحاسوب بالمعنى الذي تم الاشارة اليه سابقاً حيث وصلت الجرائم التي تم احالتها عام 2010 الى 600 قضية بين التشهير والابتزاز والاعتداء على البرامج وانتحال الهوية وغيرها، وحوالي 1300 جريمة إلكترونية خلال عام 2013 حسب الاحصاءات الرسمية، وأن 75% من ضحايا تلك الجرائم هم من النساء وكذلك الاعتداء على الحسابات المصرفية وتحويل الاموال، وفي عام 2014 تم الاعلان عن انشاء مركز لمكافحة الجرائم الإلكترونية والتهديدات الأمنية الإلكترونية التي تستهدف القطاعات المالية والأمن القومي بالأردن، تحت إشراف وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات.
* في أدوات التفسير
المقصود بالتفسير في اللغة هو البيان والوضوح والظهور، ومن هذا المنطلق فإن المقصود بتفسير القانون هو بيان وإيضاح النصوص القانونية حتى تكون ظاهرة وواضحة، لكي يسهل تطبيقها والاستناد إليها ودراستها والبحث فيها، والنصوص القانونية الواضحة لا تحتاج إلى تفسير ولا يجوز تأويلها إلى مدلول غير مدلولها الواضح والمقصود، في حين أن النصوص القانونية غير الواضحة المعنى والناقصة أو الغامضة يتعذر تطبيقها ولذلك ينبغي تفسيرها لتحديد معناها.
فالتفسير هو بيان الحكم القانوني الأمثل الذي يفهم من النص لتطبيقه على الأفراد بواسطة القضاء أو غيره من وسائل وطرق التفسير وبأدوات التفسير، والمقصود بتفسير القانون تحديد مضمون القاعدة القانونية والتعرف على عناصرها وأوصافها، حتى يمكن بذلك تحديد نطاقها من حيث الموضوع والتحقق من مدى انطباقها على الحالات العملية.
الا أن موضوع التفسير يتم اللجوء إليه في عند نشوء حالات معينه " اسباب التفسير" وليس أمراً اعتباطياً لا ضوابط له ومن ضمن هذه الحالات الخطاء المادي في النصوص القانونية ويتم ازالة هذا الخطاء من خلال المؤسسات ذات العلاقة والاختصاص بإصدار التشريع، والحالة الاخرى هي غموض النص القانوني والتي تحتمل عباراته أكثر من معنى أو مدلول، وحينئذ على القاضي أو الجهة المختصة بالتفسير، وهو بصدد تفسير النص، الأخذ بالمفهوم الأقرب إلى الصواب، بشرط مراعاة بنية التشريع الكلية وقواعد أصول التفسير، والترتيب بين المصادر الرسمية للتفسير وغير الرسمية وذلك للحصول على حكم النص وغاية المشرع. ويتم اللجوء الى التفسير في حال النقص في النص القانوني أي عندما يسكت المشرع عن ايراد بعض الالفاظ أو الاحكام وهنا يتم اللجوء الى طرق التفسري شريطة مراعاة قواعد واصول التفسير.
والحالة الاخيرة هي حال تناقض النصوص القانونية أي عند تعارض نصين قانونيين في موضوع واحد بمعنى أن ينطبق نصان قانونيان على واقعة واحدة أو أن تتعارض احكام النصوص فيظهر إستحالة في التطبيق، وفي حالة قانون الجرائم الالكترونية للوهلة الاولى يجد القارئ بأن هناك تعارض ظاهري بين النصوص ففي الوقت الذي يعاقب قانون المطبوعات والنشر على الذم والقدح والتحقير، فإن قانون جرائم انظمة المعلومات يهيّئ للبعض انه يشمل بالتغطية القانونية ذات الحالات، فوفقاً لقواعد واصول التفسير في مثل وجود هذه الحالة ينبغي أن نعتبر النص الجديد ناسخاً للنص القديم المتعارض معه وملغياً له هذا ما يجب اعمالة في حالة التعارض واستحالة التطبيق بين النصين، ولا يتم اللجوء الى إعمال قاعدة الخاص والعام بإعتبار انه يتم اللجوء اليها عند تنظيم نص امراً بكلياته ويأتي نص ينظم مسألة فرعية يمكن شمولها في النص العام ففي مثل هذه الحالة يتم إعمال الاخاص يقيد العام، وهي غير منطبقة على حالتنا هذه.
اما في حال ان كان النصين يغطيان ذات الحالة والواقعة وتم المعاقبة عليها في ذات القانونين فهذا لا يحتاج الى تفسير بل يعتبر هذا بمثابة تخبط في السياسة التشريعة الوطنية وعدم وضوح للرؤيا وغموض في السياسة العامة التشريعية، ويؤدي الى خلق مراكز قانونية متضاربة ويفقد التشريع أحد ركائز ومقومات وجودة الاساسية وهي ضمان الحقوق والحريات، فكيف يلاحق اليوم شخص على فعل معين ويعاقب بعقوبة وفقاً لتشريع معين وبعد فترة بسيطة يلاحق عن ذات الفعل على نصوص قانون أخر يختلف في فلسفة العقوبات عن القانون الاول واجراءات محاكمة مختلفة كلياً، إن وجود مثل هذه الحالة يشكل إهداراً حقيقياً للضمانات الدستورية للحثقوق والحريات بل ويعتبر تعدياً صارخاً على حقوق الافراد.
في حالتنا مدار البحث نجد أن هذا ما استشكل على البعض في أن هناك تعارض بين قانون المطبوعات والنشر وقانون الجرائم الالكترونية متوهماً على انه يتم إعمال العام والخاص في مثل هذه الحالة، وفي حقيقة الامر نجد أن التعارض ظاهري لا اساس ولا وجود له في الوقت الذي يغطي قانون المطبوعات والنشر جرائم المطبوعات والنشر ويحدد الأطر العامة لها، فإن قانون الجرائم الالكترونية يطال بالتغطية القانونية الجرائم التي ترتكب بواسطة الشبكة العنكبوتية والتي لا تتجاوز الجرائم والحالات التي تم الاشارة اليها، ولا يكون فاعلها معلوماً للملاء فالصحفي والاعلامي والكاتب وغيرهم يقوم بكاتبة وتغطية خبره الصحفي وهو معلوم للجميع كاشف عن اسمه وعنوانه، في حين أن مرتكب جرائم الكمبيوتر شخص أو عصابة أشرار لها اهداف سياسية أو اقتصادية أو اخلاقية أو فكرية من ارتكاب الجريمة الالكترونية.
ففي مثل هذه الحالة لا يتم اإمال طرق التفسير الداخلية وهي العام والخاص والاستنتاج بطريق القياس والاستنتاج من باب اولى أو الاستنتاج من مفهوم المخالفة، لأن الطرق الخارجية للقاعدة القانونية محل التفسير لم تتوحد ويتم اللجوء الى الطرق الداخلية عند وجود نصوص متعارضة أو غامضة في ذات التشريع.
اما عند نشوب غموض أو ابهام في بناء قانوني- قواعد قانونية مختلفة- قانونيين مختلفين- فإن من المتوجب إعمال طرق التفسير الخارجية لإستظهار الحالة وإزالة الغموض والابهام وإجلاء للمعنى والغاية الحقيقية القابعة في جوهر النص لا ظاهرة، وهذه الطرق الخارجية هي:
اولا: حكمة التشريع "غاية التشريع":
لأن المشرع حينما يضع النصوص القانونية تكون له غايات يريد تحقيقها من النصوص التشريعية، وهي عادة ما يتم الاعراب عنها من خلال الأسباب الموجبة. لذلك، فإن إستخلاص القاضي عند تفسيره للنصوص والأهداف والحكم والغايات التي إبتغاها المشرع من تلك النصوص يوضح معانيها ويفسرها ويٌسهل تطبيقها، وعليه فإن الاسباب الموجبة لقانون الجرائم الالكترونية جاءت لحماية أمن المعلومات الوطني والقومي من الاعتداء والسرقة والعبث أو استخدام شبكة المعلومات في أفعال غير أخلاقية، والحفاظ على المعلومات الائتمانية وتمويل الاعمال الارهابية، اما قانون المطبوعات والنشر فإن الاسباب الموجبة له تكمن في تعزيز حرية الرأي والتعبير ولضمان عدم توقيف الصحفيين وتنظيم عمل المطبوعات الدورية وغيرها، وضمانات المحاكمة العادلة وعدم الاطالة فيها، فإي إختلاف بيَن وظاهر بين الاسباب الموجبة لكلا القانونيين. واضح وجلي للعيان لا يترك مجالاً للشل في تعارض قواعد كل منهما، فالمادة 11 تغطي حالات محددة تتعلق بالدخول غير المشروع لانظمة المعلومات وتقنياتها وبرامجها واستخدام الذم والقدح والتحقير.
ثانيا: الأعمال التحضيرية:
وهي مجموعة الأعمال التي تسبق صدور القانون وتتمثل في المذكرات التفسيرية للقانون والمذكرات الايضاحية التي تعد وترفق بمشروع القانون وأي مشروع قانون لتعديل قانون قائم، بالإضافة إلى كافة المناقشات ومحاضر جلسات البرلمان والتي تم فيها مناقشة نصوص وأحكام القانون بما في ذلك نقاشات ومحاضر اللجان الحكومية والمؤسسات التي ناقشت القانون. فمن خلال الاطلاع على تلك المذكرات والمحاضر والوثائق يستطيع القاضي معرفة القصد والغاية الحقيقية للمشرع من النص أو القانون ومن ثم معرفة معاني النصوص القانونية، وكما سلف فإن نظرة بسيطة للسيرة الذاتية لقانون الجرائم الالكترونية نجد بدون عنا أن فلسفة هذا القانون مغايرة تماماً لما ذهب اليه البعض كلياً وتختلف إختلافاً بيناً لا لبس فيه حيث أشرفت وزارة تكنولجويا المعلومات على إنضاج وإخراج المسودة الاولى لمشروع القانون، وكان مجمل النقاشات يصب في حماية المعلومات الالكترونية، وعليه فإن كافة الاعمال التحضيرية للقانون تفيد بأنه جاء لتحقيق هذه الغاية، في حين أن غاية قانون المطبوعات والنشر واضحة لا لبس فيها ايضاً في التطبيق على الصحفيين والمواقع والصحف وهو القانون ذي المساس المباشر بحرية الرأي والتعبير.
امام كل هذه المعطيات يمكننا أن نجمل القول بأن قانون الجرائم الالكترونية يطال بالتجريم حالات وجرائم ويلاحق اشخاصاً لا يطالهم قانون المطبوعات والنشر والذي رسم الأطر العامة للتعامل مع الصحفيين والمواقع والصحف ونظم المحاكمات العادلة للصحفيين وآليات ترخيص المطبوعات بكافة انواعها، وأن اللبس والابهام الذي أستشكل على البعض هو تعارض ظاهري للنصوص لا حقيقي لها، وان إعمال قواعد التفسير الخارجي لكلا القانونيين يوصلنا الى هذه الحقيقية دون عناء، وعليه فإنه لا يمكن بل من المستحيل ملاحقة كاتب صحفي أو كاتب مقال على المادة 11 من قانون الجرائم الالكترونية البته كون هذا الشخص كشف عن اسمه وهويته والصحيفة التي نشر فيها فهو يجاهر للعلن بما كتب ويهدف اصلاً الى اطلاع الجمهور عليه ولم يرتكب فعلاً أو جريمة الكترونية بالمعنى المراد من المادة 11 من القانون، ويمكن اللجوء الى تطبيق المادة11 لو أن شخص دخل الى أحد المواقع الالكترونية لقرصنة المعلومات وتحريف وتزوير في المعلومات بحيث الحق ضراراً مادياً أو معنوياً بذوات الناس من خلال ذم وقدح وتحقيير ففي مثل هذه الحالة يصار الى تطبيق احكام المادة 11، وغير ذلك يعتبر انحرافاً في التفسير القانوني لمضمون النصوص النشريعية.
هذا ناهيك عن حجم الدمار الذي يلحقة مثل هذا التطبيق بحقوق وحريات الافراد ويهدر ويعصف بالقواعد العامة وضماناتها والتي هي محل اجماع من قبل كافة النظريات القانونية فكيف لنا القول بثنائية النصوص التي تطبق على ذات الفعل، اليوم يتم تطبق نص معين وغداً يتم تطبيق نص أخر على ذات الفعل، ولا يمكننا القول بإعمال قاعدة العام والخاص ايضاً، بإعتبار أن كل قانون ينظم حالة عقابية خاصة ومختلفة هيكلياً عن غيرها، فلا يوجد خاص ولا عام في مثل هذه الحالة.