jo24_banner
jo24_banner

حرية التجمع والتعبير السلمي" الجماعي، العفوي " عابرة لكافة الأطر التشريعية والتنظيمية

المحامي صدام ابو عزام
جو 24 :
لعل ما يشهده الشارع الوطني من إنسياب وتدفق سلمي جماعي عفوي يشكل حالة غير مسبوقة في العمل العام، وله العديد من المؤشرات التي يجب أن تقرأ بعناية ودقة، وأن تأخذها المؤسسات الرسمية بعين الإعتبار كونها وفق الأصل تسعى إلى تحقيق مصالح جمهور المواطنين وتسعى إلى تلبية رغباتهم، ولا أدل على ذلك من الممارسة الديمقراطية يوم أمس الاربعاء 30/5/2018.

إذ رافق ذلك حديث وتحليل حول مدى قانونية مشاركة موظفي القطاع العام في الاضراب، وطفى على السطح فتاوى وأراء تشير إلى تحريم الإضراب على موظفي القطاع العام بالإستناد الى النصوص الدولية ذات العلاقة بحقوق الانسان من قبل البعض، ونشير في هذا الصدد إلى أن منهج الانتقائية في الإستناد إلى النصوص والمعايير الدولية يؤكد على عدم فهم عميق لمضمون وكيفية عمل الهيئات الدولية والطبيعة المتخصصة للصياغة التشريعية التي بنيت عليها تلك النصوص، إذ تسهر العديد من اللجان والخبراء والمؤسسات والكوادر وفق الكيانات المؤسسية للأمم المتحدة وأجهزتها لتطوير المضمون المعياري الخاص بتلك النصوص بشكل متجدد ومتطور وفق آليات عديدة منها التقارير والتعليقات وقرارات التفسير والتصدي للشكاوى وقرارات الاليات الاقليمية لتشكل بمجموعها أدبيات فكرية ومصدراً تفسيرياً داخلياً لمضمون تلك النصوص لتبقى على قيد الحياة تستنشق الهواء وتتصدى للإجابة على كافة المستجدات ذات الطابع الحقوقي.

وعليه فلا يمكن لأي مجتهد أن يجتزء تلك النصوص من خزاناتها الفكرية والادبية دون الفهم العميق لتدفقات العمل والبناء المنهجي لها، والوقوف عند ظاهر النصوص العامة الواردة في تلك الوثائق بمعزل عن سياقات التطور المؤسسي والفكري التي لا يمكن تفسيرها أو فهمها بمعزل عن جوهرها وهي التي تبث الدماء في شرايين تلك النصوص لتنهض كما سلف بالاجابة على كل الوقائع المستحدثة.

هذا ليس راي كاتب هذه السطور وإنما تم الاشارة إليه من قبل الهيئات واللجان القائمة على تفسير وتطوير تلك النصوص عند الاستناد على مضمون تلك الاتفاقيات في العديد من تعليقات اللجان الدولية وتقارير الخبراء التي يمكن الاطلاع والرجوع عليها بأي وقت، كما أشارت الى أن منهج الانتقاء في الاستناد لتلك النصوص يخرج النص عن سياقه ويؤدي الى تشوهات فكرية في فهم النصوص والغاية منها والذي تعمد له بالعادة المؤسسات الرسمية بين الفينة والاخرى لتضفي شرعية أو تبرر بعض التصرفات غير المرغوبة.

وعودة على ذي بدء، فإن الحق في حرية التجمع السلمي له العديد من الخصائص والسمات الفردية والتي تميزه عن غيره من حقوق الانسان، تبدأ من حيث إعتباره حرية، وهذا ما عبرت عنه الاتفاقيات الاوروبية وأشارت له لجان التفسير والتعليق المنبثقة عن العهدين الدوليين، ويضيف هذا الفهم -أي الحرية- لهذا الحق طبيعة فريدة ومركبة من حيث طبيعة الفهم التي يجب الانطلاق منها عند التعامل مع الحق وطبيعة الالتزامات المترتبة على عاتق كافة الفاعلين والمتأثيرن بهذا الحق فضلاً عن طبيعة الالتزامات الملقاة على عاتق الدولة ومؤسساتها والتي تعبر عن الحد الادنى او العتبة التي يجب على الدولة ومؤسساتها الالتزام و الوفاء بها خلال عملية تنظيم القوانين والسياسات والممارسات ذات العلاقة بالحق.

وتتبدى هذه الخصائص الفردية المنطلقة من هذا الفهم من خلال الممارسات المتعلقة بالحق والانطلاق من قاعدة أن الأصل في الأمور الإباحة ولا يجوز القياس أو التوسع في التفسير أو فرض قيود أو التوسع فيها بالنسبة للممارسات، وأن تنطلق السلطات الادارية الرسمية ومؤسسات إنفاذ القانون من ذلك في التعامل مع كل الوقائع والمستجدات الميدانية عند ممارسة الأفراد والجماعات لهذا الحق وإعتبار كافة الامور والوقائع مباحة وجائزة وتقع في دائرة ممارسة الحرية التي هي مناط الحماية لمضمون الحق.

أما بالنسبة للتشريعات فيجب أن تتسم بالعديد من الصياغات والتراكيب التشريعية الحساسة والصديقة للحق في حرية التجمع السلمي وعلى الجهات المختصة بالإشراف على إدارة التشريعات الوطنية أن تتبنى منهجاً علمياً وموضوعياً يتسم بالحياد إزاء كافة الاراء ووجهات النظر وان تقدم صيغ تشريعية تؤدي الى تعزيز الحق من خلال عدم تضييق مساحة الحرية الخاصة بالأفراد و في البناء التشريعي من قاعدة فطرية الحق وثبوته لعموم الناس، هذا من جهة.

كما أن الفهم التشريعي والسياساتي لجوهر الحق يسعاد المؤسسات الرسمية في التعرف على أراء ووجهات نظر المواطنين حيال كافة الأمور التي تتعلق بشؤونهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية بشكل سريع وبسيط دون المرور في إجراءات مؤسسية قد تتسم بالبيروقراطية من شأنها ان تحدث تشوهات في فهم وجهات نظر الجمهور، وبالتالي تضمن فعالية للتشريعات التي تعرض على السلطات التشريعية، وبذات السياق أن تمتنع المؤسسات الرسمية عن أي ممارسة من شأنها التهديد أو التضييق على الأفراد الذين يمارسون هذا الحق من جهة أخرى.

لم تكن مسألة ممارسة ومشاركة الموظف العام غائبة عن مساحات التفكير للجان الدولية إذ تصدت لمثل هذه المسألة قبل حقب زمنية ولا سيما خلال التحولات السياسية لأوروبا الشرقية فهناك العديد من الوقائع والفصل في شكاوى وتقارير صدرت عن المحاكم الاوروبية وتصدت لها المحكمة الاوروبية لحقوق الانسان في هذه المسألة وشكلت هذه الادبيات أحد أهم المراجع التي إستندت اليها آليات الامم المتحدة في وقت لاحق وأحالت اليها في متن تقاريرها أو في قراراتها.

ولتبديد اللبس والغموض حول هذه المسألة نجد أن مشاركة الموظف العام في هذا الحق يتوقف على تحديد طبيعة الموظف العام في كل سياق وطني، الا انه يجب الأخذ بعين الإعتبار أن القيد الوارد في العهدين الدوليين في الإحالة الى التشريعات الوطنية يجب أن يفهم في سياق تقييد مشاركة الاجهزة الامنية والقوات المسلحة ومن في حكمهم من ممارسة هذا الحق نظراً لطبيعة الادوار التي يقوم بها هولاء الافراد، كما أن المقصود في الموظف العام ليس جموع الموظفين من غير صناع القرار الاداري في المؤسسات وإنما مقصور على موظفي الفئات العلياء الذين تناط بهم مهمة تنفيذ سياسات الحكومة وتقديم وجهات نظر وتوضيحات مستمرة للرأي العام حتى يبقى جمهور المواطنين على إطلاع بكافة التطورات التي تطرأ حيال المسألة محل الاضراب أو الاعتصام أو غيرها من فعاليات.

والفئة الثالثة والأخيرة من المقيدين هم فئات الموظفين الذين تناط بهم مهمة تسيير المرافق الحيوية والخدمات الرئيسية للمواطنيين وهذا الفئات لا يطالها المنع التام بل يتم تنظيم مسألة مشاركتهم إنطلاقاً من الفهم التفسيري الضيق لمفهوم القيد الذي يتمتع به هذا الحق، وعليه فإن فئات الموظفين المشمولين في هذا القيد التنظيمي وليس القيد المطلق كباقي الفئات الأخرى، ولا يجوز أن يفهم من هذا القيد إدخال فئات أخرى دون مراعاة العتبة الحقوقية لمضمون الحرية، ومن الادبيات الدولية التي أشارت الى مثل هذه الفئات هم موظفي خدمات الطيران الجوي والمستشفيات والمياه والافراد الذين يعملون في مؤسسات السلامة العامة في حال انطبق عليهم وصف الموظف العام. يتم حيال هولاء تنظيم مشاركتهم ضمن أطر تضمن تدفق الخدمات الاسياسية وفق اجراءات إدارية داخلية لتلك المؤسسات من خلال نوبات العمل المتقطعة أو تنظيم ساعات العمل وغيرها من تدابير.

الا ان التطورات الدراماتيكية والحيوية لمضمون هذا الحق والطبيعة المتجددة له أفرزت ممارسة عملية تتمثل في ممارسة حرية التجمع والتنظيم العفوي الجماعي والتي يخرج من خلالها جموع الناس بكافة مكوناتهم وتنظيماتهم للتعبير عن وجهة نظرهم بقضية أو مسألة من شأنها أن تمس حياتهم أو تؤثر على النمط الثقافي أو الاقتصادي أو السياسي في بلدانهم ففي مثل هذه الحالات لا يجب التقيد بأي شكل أو طريقة أو إتباع اسلوب إخطار أو إشعار لممارسة هذا الحق، وإنما يكون ذلك تكريساً عملياً لمزاولة الشعوب حقها في إبداء الرأي المباشر وتجاوز القنوات المؤسساتية أو الأطر التنظيمية التشريعية أو الادارية في حال كان الأمر ذو طبيعة عامة وتأثير عام من شأنه أن يمس أو يغير نمط الحياة للأفراد والجماعات، وعند إستدعاء الادبيات الفكرية الخاصة في هذا الموضوع تشير الى أن السبب في مثل هذه التحركات الجماعية يكمن في فقدان الثقة في المؤسسات التي تدير وتشرف على عمليات صياغة وبناء التشريعات او عدم حسن تنظيمها وإدارتها بشكل علمي ومؤسسي يجعل من أراء جمهور المواطنين محلاً لخلق تلك الاحتياجات التشريعية أو الادارية أو غيرها، أو عدم الأخذ بوجهات نظر الجمهور في التشريع أو القضية محل التحرك الجماعي وبناء مقاربات تشريعية أو حسم بمسائل سياسية أو اقتصادية أو ثقافية على عكس رغبات الجمهور، وفي الحقيقة هنا يتجسد مبدأ أن الشعب مصدر السلطات.

وعليه، يجب أن يتم التعامل مع هذه التحركات العفوية والجماعية على أنها ميزة مضافة للديمقراطية في المجتمعات التي تمارسها، تشير الى تفاعل ايجابي بين كافة الاطراف والمؤسسات التي تدير الشأن العام أو تتصدى للقضايات المصيرية المتعلقة بنمط حياة المواطنين، وعليه فهي فرصة سانحة للمؤسسات التشريعية والتنفيذية أن تلتقط موجات الرأي العام الجماهيري وتعاود بناء مقارباتها المؤسسية بما يحترم ويحقق تطلعات جمهور المواطنين وأن تحسن مجاري السمع لديها لتسمع أقسى عبارات النقد.
 
تابعو الأردن 24 على google news