السياسة المحرمة: هذا هو الثمن
ردود الفعل الغاضبة على قرارات رفع الأسعار انتشرت مثل النار التي تأكل الهشيم، وتأكل نفسها إذا لم تجده. وهي تؤكد، من جديد، أن هذا هو الثمن الذي ندفعه جراء سلوك أجيال من الحكومات حرّمت على الناس ممارسة السياسة، وانتزعت من الشعب حقه في أن يعرف، وحقه في أن يعبّر، وحقه في أن يرفض بطرق سلمية وديمقراطية محترمة. وإذ يقوم الناس بإحراق بضع إطارات في عرض الشارع، ويعتدون على بعض الممتلكات العامة في لحظة غضب، فلأن حواسهم عطلت في ملاحقة الفساد، وفي معرفة المصير الذي تُقاد إليه بلادهم طيلة عقود طويلة.
المفارقة أن إصرار النخب الحكومية مستمر في وصف الحراك الشعبي بأنه غير مسيس، وأن الغاضبين لا يحملون برنامجا سياسيا، اعتقادا من هذه النخب أن ذلك يحمل رسالة للعالم بأن الأمور وقتية وهبة غضب وتنتهي، ولا تدرك هذه النخب أن الرسالة الأهم ينتظرها الناس في الداخل، كما لا تدري أن السلوك العنيف بالتعبير عن المطالب، والذي لا يقره أحد، هو من صنع أيدي تلك النخب، وبفعل وصفاتها الجاهزة التي أنهكت البلاد وأغرقتها في الديون والاستجداء، وفككت البنى الاجتماعية والاقتصادية بدون أن تبني أي جديد، وأفرغت المجتمع من الأطر الحضارية والمدنية للتعبير السلمي التي تحفظ السلم الأهلي وتضمن التعبير الحر في أحلك اللحظات. لاحظوا الفرق في التعبير عن الأزمة الاقتصادية العاصفة التي نشهدها بالمقارنة مع ما تشهده في الوقت نفسه دول أوروبية، منها إيطاليا واليونان وبلجيكا وإسبانيا، عرفت إجراءات اقتصادية تقشفية وردود فعل غاضبة بدون الاعتداء على محكمة أو بلدية.
هذا ثمن وصول أفراد غير مؤهلين وغير مسؤولين إلى دفة صنع القرار في أكثر من مستوى؛ ثمن تفريغ المؤسسات العامة من الكفاءات، فلم تعد هذه المؤسسات تمثل للناس، في الكثير من الأحيان، سوى الآخر الذي لا هم له سوى تعقيد حياتهم. وهذا ثمن برلمانات مزيفة وغير جديرة بتمثيل المجتمع، وثمن تعطيل الحياة العامة وتفريغها من مضامينها، وتعطيل قدرة الأحزاب على ممارسة السياسة، وتحريم السياسة وكأنها شتيمة. وكذلك هو ثمن تفريغ الجامعات من الفعل الحضاري ومن الكفاءات الحقيقية، وثمن تحويل الإعلام الى زفة وسط مأتم كبير.
على مدى سنوات مضت، كانت الأزمة الاقتصادية تعصف في عمق المجتمع؛ بتفكيك هياكل الدولة وبيعها، وبإعادة تصنيع مجتمع نخبة جديد لا علاقة للبلاد به إلا بالنهب والفساد، بينما كانت عمليات التصنيع السياسي تعصف بالبنى الاجتماعية وتفرغها من مضامينها السياسية الحقيقية على مستوى القيادات والأفراد والمجتمعات المحلية؛ مرة على شكل عمليات تهشيم سياسي للبنى الاجتماعية وإعادة تصنيع طبقي واقتصادي، ومرة أخرى على شكل حملات تسويق سياسي تلعب بأعصاب الناس وعواطفهم.
الدولة الأردنية التي بنيت بالصبر والندرة، وعلى أكتاف كل أبنائها بعيدا عن ملهاة الأصول والمنابت، هي اليوم في أمسّ الحاجة إلى تجديد وتعديل عقدها الاجتماعي مع نفسها، وبالسياسة وحدها..