الصدمة والكارثة
د.باسم الطويسي
جو 24 : نُزف حبر كثير في وصف دماء الضحايا الأبرياء في أحداث جامعة الحسين بن طلال، وتفسير خلفيات هذه الأحداث. لكن أن تعيش المشهد، وأن تمسك بالرواية من الداخل، والأكثر قسوة من ذلك كله أن تفقد أصدقاء وزملاء كنت قبل ساعات قليلة تقاسمهم الهم والصبر والإصرار، وأن تفقد طلبتك الذين طالما وعدتهم بالحياة والمستقبل؛ أن تفقد كل أولئك بدم بارد وبكل هذا العبث، وبدون قضية، فهذه هي الصدمة والكارثة اللتان ستبقى مرارتهما تلاحق جيلنا.
كان المرحوم محمود البواب نموذجا نادرا في النبل والعطاء وأخلاق الفرسان الحقيقيين؛ كان يتقدمنا جميعا بإيمانه أن العمل هو الطريق الأقرب إلى الله. وقد كنا على موعد في صباح الاثنين الماضي المشؤوم في إحدى قاعات المركز الأردني-الكوري للمعلومات، الذي دشناه معا كواحد من أفضل مراكز تكنولوجيا المعلومات في جامعات الشرق الأوسط. كان يحضّر لافتتاحنا دورة تدريبية لمجموعة من شباب بادية الجفر. وبينما كان الآخرون يعدون لاحتفالاتهم وأهازيجهم العابرة، كان البواب يعمل بإصرار ليحمي حق أبناء معان والبادية في المعرفة؛ وبينما كان الآخرون يتنافسون على أوتاد الخيام، كان الفقيد يتفقد شبكة الحاسوب.
استقبل أبناء الجفر واحدا واحدا، وحاضر بهم بالفعل، وكانت آخر محاضرة! لم يكن في ذهنه في ذلك اليوم، ولا في أي يوم، حسابات العشائر والجهات، ولم يدر في خلده كل هذا العبث المجنون الذي قتله، وأعادنا إلى ما قبل الدولة وما قبل العشيرة.
بقينا لسنوات نسلي أنفسنا بأن العنف في الجامعات ظاهرة عابرة، مرتبطة بظروف طارئة ستزول حتما بفعل التغير الاجتماعي والثقافي القادم. لكن القادم كان عودة ذهنية الخيمة. وبدل أن نزرع الصحراء بالأخضر وبالبحث العلمي وبراءات الاختراعات، حصدنا هذا الهشيم المر!
علينا أن نعترف، نحن هذا الجيل من الأكاديميين والمثقفين أولا، والسياسيين ثانيا، بأننا فشلنا في حماية نظامنا الاجتماعي، وفشلنا في حماية نظامنا التعليمي الذي ينهار أمامنا، وها نحن شهود على عصر عادت فيه ذهنية الخيمة لتحكم، بعدما عطلنا القانون، واهتزت الأيادي التي تمسك به؛ فلا نحن في أرض الأجداد حيث فروسيتهم ونبلهم العظيم، ولا نحن في أرض الأبناء نبني دولة لكل مواطنيها بالعدل والقانون، فلقد أخذنا أسوأ ما في ذهنية القبيلة والخيمة، وأسوأ ما في العصر.
الدولة والمجتمع يتحملان مسؤولية ما حدث، ومسؤولية ما سوف يحدث. ولكن الدولة وحدها تتحمل مسؤولية الحلول، لأنها وحدها التي تملك القدرة على الردع العام، وهي وحدها التي تحتكر القوة من أجل أن تفرض القانون، وأن تأتي بالإصلاح، وأن تعالج العلل والتشوهات. فلقد كانت ساحات الجامعات، ومنذ أكثر من عقد، بمثابة الجهاز العصبي للدولة والمجتمع، تنبهنا إلى أين تسير الأمور في البلاد. لكننا لم نلتقط الإشارات مبكرا، وها نحن نتلقى الصدمات والكوارث في كل يوم. والقادم أسوأ إذا ما استمرت ذهنية التهدئة والمداراة والتعامل مع الكارثة قطعة بقطعة؛ فالجامعات التي تمثل اليوم عنوان هذه الصدمة الكبيرة التي تطال كل شيء حولنا، قد تكون عنوان الحل.
كل ما في هذه الدنيا من حزن ومرارة ونقمة لن يعيد محمود البواب لأطفاله وزوجته، ولن يعيده إلينا الأسبوع المقبل. وكل هذه المرارة لن تعيد أولئك الشباب إلى أمهاتهم. لكن ستبقى هذه الأرواح البريئة تستصرخنا أن نفعل شيئا. (الغد)
basim.tweissi@alghad.jo
كان المرحوم محمود البواب نموذجا نادرا في النبل والعطاء وأخلاق الفرسان الحقيقيين؛ كان يتقدمنا جميعا بإيمانه أن العمل هو الطريق الأقرب إلى الله. وقد كنا على موعد في صباح الاثنين الماضي المشؤوم في إحدى قاعات المركز الأردني-الكوري للمعلومات، الذي دشناه معا كواحد من أفضل مراكز تكنولوجيا المعلومات في جامعات الشرق الأوسط. كان يحضّر لافتتاحنا دورة تدريبية لمجموعة من شباب بادية الجفر. وبينما كان الآخرون يعدون لاحتفالاتهم وأهازيجهم العابرة، كان البواب يعمل بإصرار ليحمي حق أبناء معان والبادية في المعرفة؛ وبينما كان الآخرون يتنافسون على أوتاد الخيام، كان الفقيد يتفقد شبكة الحاسوب.
استقبل أبناء الجفر واحدا واحدا، وحاضر بهم بالفعل، وكانت آخر محاضرة! لم يكن في ذهنه في ذلك اليوم، ولا في أي يوم، حسابات العشائر والجهات، ولم يدر في خلده كل هذا العبث المجنون الذي قتله، وأعادنا إلى ما قبل الدولة وما قبل العشيرة.
بقينا لسنوات نسلي أنفسنا بأن العنف في الجامعات ظاهرة عابرة، مرتبطة بظروف طارئة ستزول حتما بفعل التغير الاجتماعي والثقافي القادم. لكن القادم كان عودة ذهنية الخيمة. وبدل أن نزرع الصحراء بالأخضر وبالبحث العلمي وبراءات الاختراعات، حصدنا هذا الهشيم المر!
علينا أن نعترف، نحن هذا الجيل من الأكاديميين والمثقفين أولا، والسياسيين ثانيا، بأننا فشلنا في حماية نظامنا الاجتماعي، وفشلنا في حماية نظامنا التعليمي الذي ينهار أمامنا، وها نحن شهود على عصر عادت فيه ذهنية الخيمة لتحكم، بعدما عطلنا القانون، واهتزت الأيادي التي تمسك به؛ فلا نحن في أرض الأجداد حيث فروسيتهم ونبلهم العظيم، ولا نحن في أرض الأبناء نبني دولة لكل مواطنيها بالعدل والقانون، فلقد أخذنا أسوأ ما في ذهنية القبيلة والخيمة، وأسوأ ما في العصر.
الدولة والمجتمع يتحملان مسؤولية ما حدث، ومسؤولية ما سوف يحدث. ولكن الدولة وحدها تتحمل مسؤولية الحلول، لأنها وحدها التي تملك القدرة على الردع العام، وهي وحدها التي تحتكر القوة من أجل أن تفرض القانون، وأن تأتي بالإصلاح، وأن تعالج العلل والتشوهات. فلقد كانت ساحات الجامعات، ومنذ أكثر من عقد، بمثابة الجهاز العصبي للدولة والمجتمع، تنبهنا إلى أين تسير الأمور في البلاد. لكننا لم نلتقط الإشارات مبكرا، وها نحن نتلقى الصدمات والكوارث في كل يوم. والقادم أسوأ إذا ما استمرت ذهنية التهدئة والمداراة والتعامل مع الكارثة قطعة بقطعة؛ فالجامعات التي تمثل اليوم عنوان هذه الصدمة الكبيرة التي تطال كل شيء حولنا، قد تكون عنوان الحل.
كل ما في هذه الدنيا من حزن ومرارة ونقمة لن يعيد محمود البواب لأطفاله وزوجته، ولن يعيده إلينا الأسبوع المقبل. وكل هذه المرارة لن تعيد أولئك الشباب إلى أمهاتهم. لكن ستبقى هذه الأرواح البريئة تستصرخنا أن نفعل شيئا. (الغد)
basim.tweissi@alghad.jo