الى أين يأخذنا الاعلام في تغطية الجريمة ونشر الصور
المحامي صدام ابو عزام
جو 24 :
لطالما شكلت مسألة حرية تدفق المعلومات ونشرها وتداولها حالة مطلبية للمجتمع بكل مكوناته، وإعتبار ذلك حقاً أصيلاً من حقوق المجتمع التي تشكل أحد أهم دعائم الرقابة على تسيير المرافق العامة وحسن إدارتها، وإبقاء المجتمع في صورة المعلومات الإقتصادية والسياسية والإجتماعية بإعتباره مكون من مكونات الحق في حرية الرأي والتعبير "الحق في الاطلاع"، وجزء من مكونات الحق في تقرير المصير السياسي والإقتصادي والإجتماعي والثقافي.
هذا الحق ظل حكراً على وسائل الإعلام، الا أنه في العقد الأخير من القرن المنصرم وأمام المد الهائل والانتشار الافقي والعامودي لوسائل الاعلام، غدى – هذا الحق- ثابت لكل أفراد المجتمع، بل شهدت مهنة الصحافة والاعلام تغيرات دراماتيكية جعلت منها مهنة للعموم دون قيود مؤسسية كما السابق، وظهر مفهوم المواطن الصحفي.
امام تلك المتغيرات، كان لا بد من تنظيم مؤسسي لعمل وسائل الإعلام، وطفى على السطح نقاش محتدم حول تحديد المسؤول عن التنظيم هل هو للمؤسسة الرسمية أم أن أدوات التنظيم قابعة في ذات المؤسسات الإعلامية أو المؤسسات المهنية التي ينخرط فيها الإعلاميين في تنظيم مؤسسي مثل النقابات.
وظلت قواعد المهنية ومبادئ وحرفية التغطية وأمانة النشر والحفاظ على المصادر مقدسات لا يمكن التنازل عنها أو التهاون بها، امام كل تلك المتغيرات، بل وشكلت حالة إجماع لدى الكافة.
هذا السرد التاريخي نوعا ما للقدرة على تشخيص الفجوات التي رافقت التطور الهائل والكبير على مبادئ وتقاليد واعراف المهنة الاعلامية.
لم يعد الأمر كذلك، فقد ظهرت ممارسات من البعض " أفراد و مؤسسات" بدأت تنقض على القيم الأخلاقية التي تمثل العامود الفقري للعلمية الإعلامية، وينم ذلك عن عدم فهم أو إدراك أبجديات العمل الإعلامي، حتى غدى السبق الصحفي معياراً للحكم والفصل على حساب المضمون، وتلاشت مساحات الجدية، حتى الذوق العام الفكري لدى المشاهد والمستمع والقارئ تم تلويثه.
المسألة لم تقف هنا، بل طالت المساس بحقوق الأفراد والإعتداء على اقدس الحقوق حماية وهو الحق في الخصوصية، ففي أخر ممارسة قضت مضجع المجتمع الاردني ماعرف " قضية طبربور"، تسابقت وسائل الإعلام في تداول ونشر صور الضحية بأبشع صورها، بل وطغت التحليلات الصحفية على عمليات التحقيق القضائي وكأنهما في مارثون، وأنتقلنا من تغطية مهنية الى" ثرثرة إعلامية".
لعل في القضايا السياسية وقضايا الشخصيات العامة الأمر لا يثير جدلاً كبيراً بإعتبار مساحة الحرية المحيطة بالشخص الذي يتولى إدارة مرفق عام أقل من غيره، وأن الجرائم السياسية أو ذات التأثير الخطير على أمن وسلامة المجتمع لا تعارض فيها بين مصلحة المجتمع ومصلحة الضحايا أو المتهمين فالمصلحة العامة مقدمة في كلاهما.
إلا أنه في جرائم الأشخاص والأموال التي في الأصل انها لا تؤرق المجتمع ولا تمس ضميره أو تقض مضجعة، أو أن الضرر الناتج عنها لم يمس مساحات واسعة من الجمهور، لعدم انتشار العلم بها وبتفاصيلها لشرائح كبيرة من المجتمع، ويأتي بعض هواة الإعلام تحت وطأة السباق المحموم على سرعة النقل والبث والنشر على أوسع نطاق من المجتمع بأبشع الصور، وتنتقل الى مساحات النقاش العام وتصبح جرائم عامة تشغل الرأي العام وتحوز على مساحات واسعة من النقاش العام وتدخل حيز التأثير العام تصبح المؤسسات القضائية مضطرة امام تلك الضغوط وحالة النفور الإجتماعي الى اصدار البيانات وعقد المؤتمرات وغيرها أو استخدام صلاحيات منع النشر في البعض الأخر.
هنا لا بد من التأكيد الى أن من حق المجتمع أن يحيى بسلام واطمئنان دون المساس أو التأثير على سلامة وسكون الحياة العامة والخاصة للناس ودون إثارة الذعر أو الهلع أو الخوف أو حتى المس بالضمير الجمعي أو التأثير على أنماط التنشئة الإجتماعية السليمة والقيمية والأخلاقية، والتي من خلالها نضمن النمو الطبيعي والفكري للمدركات العقلية والجسدية للنشئ بعدياً عن العنف ومظاهره والتطرف بكافة أشكاله والتمييز بكافة صوره.
ناهيك عن تأثير النشر الإعلامي غير المدروس وغير المصرح به من التعدي على اختصاص السلطة القضائية واختصاص الأشخاص المكلفين بإنفاذ القانون، فضلاً عن تأثير موجات الشحن الإعلامي على مجريات وسير التحقيقات وإجراءات المحاكمة، اذ تشير الممارسات الدولية الفضلى على واجب السلطات العامة ثني وسائل الإعلام عن تقويض نزاهة المحكمة أو التاثير عليها.
وعليه انتقلت المحاكمات من ردهات المحاكم الى محاكمات عن طريق وسائل الإعلام نظراً لسرعة الإنتشار ومساحة التغطية التي تطالها وسائل الإعلام، مع عدم الادراك الحقيقي للتغطية الحساسة لحقوق الانسان بشكل عام ولضمانات المحاكمة العادلة بشكل خاص للحق في الخصوصية وعدم انتهاك حرمة الاموات، وعليه تبدأ كرة الثلج تتدحرج لقاء هذه التغطيات غير المدروسة حتى تصل لمرحلة خلق حالة من الهستيريا العامة بين الجمهور، حتى أن المجتمع يصبح غير منشغل كثيراً بإجراءات المحاكمة ونتيجة الحكم وانما ينصب تركيزه على تناقل الصور ومتابعة التحليلات وأي تسريبات جديدة حيال القضية، وتنتهي هذه الموجات الهستيرية بعد مضي اقل من ثلاث ايام مخلفة اثار وتشوهات في بنية المجتمع.
ويبدأ التثاير النفسي والاجتماعي لها حسب خبراء علم النفس يلقي بظلالة على المجتمع والأفراد بعد اشهر من وقوع الجريمة، اشار الصديق والخبير باسل الحمد على صفحته على الفيس بوك الى تعرض 40% من الناس لإضطرابات خلال فترة ثلاثة شهور بعد مشاهدة صور القتلى او الجرحى، ويتقلى 5% منهم العلاج، ويذهب 95% منهم الى العلاج بالخزعبلات والحجابة، وبعد العلاج سيكون الفرد معرض للإنتكاسة من جديد، هذا فضلاص عن الكلف المالية الباهضة للعلاج النفسي.
اما ذلك فإن وسائل الاعلام تغدو بأمس الحاجة في مراجعة وسائلها وادواتها وتطوير معارفها للإطلاع على محددات التغطية الحساسة للجريمة، ومنها على سبيل المثال :
اولا: إستقاء الأخبار من المراجع القانونية المخولة بالتصريح.
ثانيا: عدم نشر تفاصيل ارتكاب الجريمية وكأن من يقرأ الخبر يتصور بأن المجرم ماثل أمامه من شدة التصوير اللغوي في نقاش التفاصيل.
ثالثا: استخدام العبارات القانونية في النغطية الإعلامية المتهم،
رابعا: الاشارة الى القاء القبض على المتهم دون الاشارة الى التفاصيل.
خامسا: تغطية جلسات المحاكمة بشكل عام دون التحليل أو الاستنتاج، مثال ذلك حضر المتهم في قضية قتل والدته جلسة الإستماع الى الشهود وهكذا،
سادسا: عدم نشر الصور البته، لا للمتهمين أو الضحايا تحت طائلة المسؤولية،
سابعا: عدم إصدار الأحكام المسبقة خلال التغطيات الإعلامية أو وضع سيناريوهات أو تحليلات حول الادانة او البراءة والإكتفاء بنقل الخبر المجرد دون زيادة أو نقصان. ثامنا: تغطية نتيجة الحكم في القضية.
امام كل هذه المعطيات فإن إعلامنا الوطني بكافة تكويناته ومؤسساته مدعو الى التريث قليلاً في التغطيات الإعلامية والتمييز بين التغطية الصحفية العادية وتغطية الاخبار الجرمية ونشر صور واشلاء القتلى والجرحى، وخيارات العمل متاحة امام نقابة الصحفيين للإسراع في تنفيذ حملات توعية وتثقيف حول التغطيات الحساسة للجريمية، والإدارات الصحفية مطالبه بضرورة موافقة رئيس التحرير أو أعلى مرجع إداري في الصحفية أو الموقع أو الاذاعة أو التلفزيون على الأخبار والتغطيات ذات العلاقة بالجرائم.
ربما إعادة النظر بمدونة السوك الخاصة بالإعلاميين وتضمينها نصوص صريحة حيال تغطية الجرائم أمر غاية في الأهمية، والمجتمع المدني ليس بعيد عن كل ذلك إذ يعتبر أحد الجهات الرئيسية والفاعلة في هذا الإطار من نشر الادلة وعقد المؤتمرات وتنفيذ الدراسات المسحية للتغطيات، وكشف الثغرات، وربما في ذات الإطار مرصد اكيد التابع لمعهد الاعلامي الاردني قد يلعب دوراً مركزياً في ذلك نظراً لحالة المصداقية والحرفية التي قدمها خلال الفترات السابقة.