الانتخابات النيابية كمحصلة سياسات عامة متراكمة
إلى أي مدى أثّرت سياسات الدولة العامة في صياغة البرلمانات، وفي الانتخابات النيابية؟
يأتي التوجه القادم إلى الحكومات البرلمانية بعد 15 عاما من سياسات الفصل بين النيابة والوزارة، والتي أدت إلى إضعاف الدور السياسي للنواب ومجلس النواب، وجعلت المناصب الوزارية متداولة في فئة غير منتخبة. ومن ثم، فقد نشأت قيادات سياسية معزولة شعبيا واجتماعيا، أو غير قادرة على التأثير في المجتمعات وفي بيئتها الاجتماعية. ودخل الحراك الاجتماعي والنخبوي الناشئ عن الانتخابات النيابية في نفق مغلق، لأنها (الانتخابات النيابية) لم تعد طريقا للصعود السياسي والتأثير الاجتماعي. والأصل أن النائب قائد سياسي واجتماعي، يجب أن يشق طريقه نحو السلطة التنفيذية أو التأثير فيها؛ فهذا هو السبيل المتبع في دول العالم الديمقراطية لتطبيق البرامج واختيار القيادات السياسية.
ربما يكون صحيحا القول إن الجمع بين النيابة والوزارة أدى إلى مفاسد كثيرة، وأضر بالدور التشريعي والرقابي لمجلس النواب. ولكن العملية السياسية تؤخذ سلسلة متصلة من التنافس والتداول والتأثير والضمانات، ولا يمكن فصلها عن بعضها؛ فما نملكه إزاء مساوئها وسلبياتها هو ابتداع ضمانات وسياسات تجعلها أقرب إلى الصواب والعدالة. ولكن، يكاد يكون مستحيلا، على الأقل في مدى الخبرة والتجربة الإنسانيتين القائمتين، أن ننتج عملية سياسية ديمقراطية تتضمن تغييرات في البنية والمتواليات التقليدية، بل يجب أن تؤخذ جملة واحدة، مع الإدراك والوعي المسبقين بحسناتها وسيئاتها، والعمل على تطويرها وتحسينها ضمن نسيجها المتكامل! ففي متناقضاتها وجدلها المعقد تأتي محصلة من العدالة النسبية!
كانت الدولة وما تزال هي الراعي الأكبر للمصالح والأعمال والخدمات والأسواق والمؤسسات، وفي ظلها نشأت القيادات السياسية والاجتماعية.. وقدمت للمعارضة السياسية عددا كبيرا من قادتها ونشطائها. وتشكل الوعي السياسي والاجتماعي والثقافي في سياق الدور الذي كان يؤديه قادة الدولة وموظفوها؛ الحكام الإداريون، مديرو المدارس ومعلموها، وموظفو الدولة بعامة. ولكن الدولة لم تعد تملك رؤية ورسالة اجتماعية واضحة تطلب من موظفيها أداءها وخدمتها، ولم تعد تمثل مشروعا سياسيا واجتماعيا تسعى إلى تحقيقه.
كانت الدولة قائمة على أساس التحديث والتنمية ونشر التعليم والوعي الاجتماعي والثقافي والصحي ومواجهة الجهل والخرافة. وكان للنجاح النسبي الذي تحقق دور في غياب البوصلة والأهداف والرؤى الجديدة المفترض بناؤها وتطويرها على ما أنجز. لم تعد الدولة تعرف ما الذي تريده من المجتمعات، ولم تعد معنية ببناء طبقة اجتماعية تحمل برنامجا ثقافيا وسياسيا. ويمكن ببساطة اليوم ملاحظة أن جمهور "المؤيدين" وقادتهم لا يمثلون الطبقة الوسطى والمهنيين بوضوح. ويكاد المؤيدون يقتصرون على مجاميع من الأتباع والقادة المتطلعين إلى منافع قريبة ومباشرة وعاجلة. وأنشأت الخصخصة، على نحو غير مقصود، ثقافة جديدة وسلوكا ابتعد عن الانتماء إلى العمل والمصالح العامة، وأصبح الأداء العام في أسوأ وأضعف حالاته.. لم يعد الموظف قدوة حسنة للمجتمع، ولا ينظر الناس إليه باعتباره قائدا مؤثرا. وذلك يعني ببساطة أن العمل العام لم يعد يغذي القيادات والنخب السياسية بروافد وقيم جديدة، وأصبحت العلاقات التي تحكم الانتخابات وتنظمها تقوم على منافع فاسدة أو روابط قرابية ودينية، ولا تصلح لتشكيل حياة سياسية وحكومات برلمانية!
(الغد )