إفساد التعليم وتعليم الفساد
كنا في الصفوف الأولى بمدارس القرى لا نحظى بأكثر من مدرس أو مدرسين أو ثلاثة على الأغلب يلقون علينا بركات علمهم ، كان غالبيتهم من معهد حوارة لتأهيل المعلمين، لم نسمع باللغة الإنجليزية إلا في المرحلة الإعدادية حينما إضطررنا الى «اللجوء التعليمي» في مدارس المدينة، هناك كل شيء كان مختلفاً، في مدارس القرى لم يكن هناك دفء أو مقاصف، بل كان هناك جوع علمي وشبق ثقافي ليس فيه أي نشوة،والمفارقة إن في ذلك الوقت كان هناك بعثات تدريسية الى الخارج،أميركا وأوروبا والشرق السوفييتي، ومع هذا خرج جيل غير فاسد رغم فقره، وغير جاحد رغم إهماله، وغير جاهل رغم تجهيله.
اليوم نرى المظاهرات تجوب المدن تنديدا برفع أسعار الخبز والمواد التموينية وانسداد الأفق الإقتصادي، ولم نر أي مظاهرة تندد بانحطاط القيم التعليمية أو تدني مستويات التعليم في جامعاتنا ومدارسنا، أو تغول القطاع الخاص على التعليم ورفع أسعاره الى درجات فاحشة ومؤذية بل واستعمارية ، الجميع اليوم أصبح يبحث عن المال، ثم المال ثم المزيد من المال على حساب جودة التعليم الذي هو أساس التنمية البشرية والإقتصادية، حتى أصبحت الأخطاء والخطايا في قطاع التعليم أوضح من قرص الشمس، ثم لا أحد يهتم.
جامعتان عريقتان هما اليرموك والعلوم والتكنولوجيا لا تزالان بلا رئيس كفؤ، فقد قرر مجلس التعليم العالي إنهاء خدمات ثلاثة رؤساء بينهما رئيسا المذكورتين، والأسباب المعلنة أن الجامعتين متعثرتان، ومع هذا لا أحد يحاسب أي رئيس أو مدير أو وزير تدهورت أوضاع مؤسسته التي هي مسؤوليته، بل يكافأ غالبية الفاشلين بإهدائهم منصبا آخر بذريعة إعطائهم الفرصة التي لم تتح لهم رغم بقائهم سنوات لا يعرفون شيئا في الإدارة.
الجامعات اليوم، يا جماعة الخير، مصابة بمرض خطير، الشللية والحسابات الشخصية والتنافس غير الشريف، وهنا أقصد الإدارات وهذا ما جعل مخرجات التعليم عندنا تنحدر الى مستويات لن يستطيع المتخرجون فيها إيجاد أي فرص عمل خارج الوطن أو حتى داخله، فالعالم تطور بشكل هائل ، كل أساليب التعليم القديمة لم يعد أكثرها مفيدا في أسواق العمل، والأعداد تتزايد بشكل مضطرد ونحن لا نزال ندرّس المسألة الشرقية، وحرب القرم والدولة الأموية، ليقابل أبناؤنا مستقبلا يعيش في عالم التكنولوجيا المعقدة والشركات العالمية التي تسيطر على سوق العمل، وجامعاتنا تقودها كوادر من علماء صنع الجميد.
لا أطرح هذا الكلام لأنني أفهم أكثر من الأساتذة المحترمين والكوادر العلمية، بل لأن متابعتنا لما يدور في العالم ومقارنته بما يجري أمامنا في هذا البلد الذي شارك في تعليم أبناء العالم العربي على أيدي أبنائه من المدرسين، يجعلنا نبكي على مآلات الوضع التعليمي، وإذا كان الناس يخرجون مضطرين للتنديد بالإجراءات الحكومية الجراحية التي طالت جيوبهم ورفعت أسعار المواد الغذائية والطاقة و الضرائب العامة مقابل تدني الخدمات العامة، فسيخرج أبناؤنا في الغد لينددوا بنا لأننا لم نندد بإفساد التعليم وترك جامعاتنا لجماعة الأصدقاء والأقرباء والمحاسيب حتى انحدرت لهذا المستوى.
اليوم لا تزال عملية البحث عن رؤساء للجامعات تراوح مكانها، وكأنها عملية بحث عن الحوت الأبيض في المحيط الهادي، بينما أمام المسؤولين في وزارة التعليم العالي والمؤسسات المعنية رؤية واضحة عن الأفضل بعدما جمعوا السير الذاتية، وليس هناك من يعرف أو يستطيع إعادة الجامعات الى تاريخها الحقيقي ورفع مستواها مجددا كمن خدموا فيها وأنجزوا فيها إنجازات تعليمية وتوفير موارد مالية ودعموا طلابها بأفكار وفرص عالية المستوى، أما أن تبقى المسألة محصورة بأسماء أو أشخاص يعاد تدويرهم مثلما يعاد توزيرهم ، فهذا يعني حكم إعدام للمستقبل التعليمي بواسطة حبل الواسطة والمحسوبية.
جامعاتنا يجب أن تلحق بركب التعليم العالمي، وإذا بقي الحال على ما هو عليه فلن يجد أي خريج أي فرصة عمل خارج البلاد ، ناهيك عن الإنسداد في سوق العمل، وستبقى رسوم المدارس والجامعات الخاصة والمدرسين الخصوصيين كابوسا يرهق حياة المواطنين أكثر وأكبر من أسعار الخبز والعلاج الذي أصبح حلم غالبية الناس،وسنبكي على زمن مدرسة قريتنا نتيجة إفساد التعليم وتحول المجتمع الى سياسيين لا يفهمون شيئا، ومدراء جشعين يعلمون الناس الفساد بإفساد أخلاقنا وتعليمنا.-(الرأي)