أبطال من التاريخ القذر
فايز الفايز
جو 24 :
من المفترض أن يتم اليوم الأحد في العاصمة الجزائر تشييع رفات مجموعة من الأبطال الجزائريين المقاومين للاستعمار الفرنسي والذي امتد طيلة مئة وتسعة وثلاثين عاما، فعلت سلطات الإستعمار فيه من المذابح والتغيير الديمغرافي واللغوي ما لم تستطعه غيرها، عدا عن استخدام الكثير من المواطنين الجزائريين الأبرياء كفئران تجارب على أبحاثها العلمية، ونفذت تجارب نووية نتج عنها وفاة الكثير من الناس هناك ولا زالت بعض الأراضي مهددة بخطر تلوث التربة.
الرفات هي جماجم محنطة لعدد من قادة المقاومة الجزائرية، كانت محفوظة في متحف الإنسان في باريس عبر عقود طويلة امتدت منذ نهاية القرن التاسع عشر، ورغم المطالبات الرسمية الجزائرية للسلطات الفرنسية بإعادة تلك الجماجم الشريفة،فإن القانون الفرنسي كان يعتبر تلك الجماجم جزءا من الممتلكات الوطنية الفرنسية الإستعمارية، ورغم اعتذار الرئيس ماكرون قبل سنتين عما جرى في الجزائر، فإن أحدا لم يخرج ليعترف بأن فرنسا فعلت الويلات للشعب العربي هناك، ولم تقدم أي تعويض لهم أو للدولة الجزائرية، رغم مرور 58 عاما على الجلاء الفرنسي من الجزائر، حتى بعد الإعتراف بالخطأ التاريخي من قبل شارل ديغول آنذاك.
اليوم يحتفي الجزائريون بعودة قادة الدفاع من المقاومين منذ عام 1851 وحتى أواسط القرن العشرين، إذ يمثل شريف بو بغلة والشيخ زيان وحمود بن محمد وابن ميرا و الشريف بوعمار بوقديره ومختار بن قودير التطراوي وسعيد بن مرابط الذي قطع الفرنسيون رأسه كما رأس الثائر الكبير بن علال، يمثلون نجوما حمراء في ليل الاستعمار الفرنسي، والحقبة الجزائرية المخيفة التي حصدت أكثر من مليوني شهيد حاولت سلطة باريس تقليل عددهم الى النصف باستهتار متعالٍ وكأنهم إرث للويس الرابع عشر ونابليون بونابرت وأحفادهم.
الحقبة الاستعمارية هي عارّ على تيجان آباطرة أوروبا، ولكن الأكثر فداحة هو احتجاز رفات البشر في متحف مخصص للدراسات البشرية طيلة سنوات طويلة، ثم يوضع تعريف لكل شخصية منهم بمجرمّ ،وهذا ما لا يمكن أن تقبله أوروبا الجديدة اليوم في ظل مناخ الحريات والعلاقات الإنسانية والفصل القاطع ما بين حقب الأوروبيين القديمة وأوروبا الحديثة، فليس من المقبول أن لا تعترف باريس بجرائم الإبادة الإنسانية في عصر دولتها الاستعمارية القديمة،بينما يطالبون اعتراف تركيا مثلا بمذابح الأرمن رغم أن الطرفين كانوا في مرحلة حرب.
تحاول كثير من أنظمة الدول الكبرى إخفاء تاريخها الأسود، فذلك الصندوق التاريخي يطاردها بلعنة لا يمكن تحملها في زمن تحاول فيه تقديم نفسها على أنها متحضرة لدرجة جمع القوى لإنقاذ هرةّ عالقة على منحدر صخري، فيما حقوق الإنسان أصبحت من أهم ملفات وزارات الخارجية ومؤسسات المجتمع المدني المدعوم بقوة من الحكومات الغربية خصوصا،ولكن يبقى التاريخ القذر لحقبة الإستعمار المتوحش يطارد دولا تسبح اليوم فوق سحاب الديمقراطية والإنسانية، حيث تمثل الحقبة الإستعمارية الأوروبية كالفرنسية والبريطانية والإسبانية والبرتغالية والهولندية والإيطالية، فترة تعدت عالم الإنسان الى عالم الحيوان الضاري في آسيا وأفريقيا العربية وشرق آسيا.
تكشف عودة الجماجم الجزائرية الأصيلة إلى موطنها عن مدى عدالة الله في من ظُـُلموا، ولو قارنا ما بين تلك الرفات الزكية ومابين قيادات جاءت بعد التحرير لعرفنا أن الإنسان المؤمن بحقه الوطني وبحقه في أن يكون حرّاً أبيّا،دون عبودية سياسية ولا عسكرية، سيكون هو الفائز أخيرا ولو كان مجرد جمجمة وهيكل عظمي بال.
تخلدت تلك الجماجم وعاشت الجزائر الحرة،وطوبى للمجاهدة جميلة بوحيرد ورفاقها المتأخرين بطرد الإستعمار العسكري، ولمثل هذا فليربي الآباء أبناءهم ليقتلعوا زرع الاحتلال قريبا.