المرحلة الأردنية الراهنة: تحديات وحلول ممكنة.. وحلقة مفقودة!
ابراهيم غرايبة
جو 24 : ربما يكون أفضل إنجاز تحقق في السنتين الماضيتين، هو تشكل وعي سياسي وإصلاحي جديد في الاردن، يكاد يكون مجمعا عليه، ويحدد بوعي ووضوح الأولويات الواجب العمل على تحقيقها وإنجازها. ويمكن على سبيل المثال ملاحظة قدر كبير من الاتفاق، بل والتطابق، بين الرؤية الملكية للإصلاح، والتي عبر عنها الملك في ثلاث ورقات نقاشية، وبين التيارات السياسية جميعها أو معظمها، بما في ذلك المعارضة. هذا الوعي المجتمعي الجديد مكسب كبير، ويمثل دليلا مرجعيا للعلاقة بين الحكومة والمجتمع والسوق.
لكن، برغم هذا الاتفاق في الرؤية بين جميع مكونات الدولة والمجتمع، لا يبدو ثمة تقدم واضح باتجاه هذه الأولويات والأهداف المتفق عليها في الحريات والعدالة الاجتماعية والكرامة والطاقة والمياه والتعليم والصحة والرعاية الاجتماعية والعمل والعدالة الضريبية ومواجهة الفساد والتهرب الضريبي والجمركي. فما هي الحلقة/ الحلقات المفقودة التي تجعل الموازنة والسلوك الحكومي والمجتمعي لا تعكس هذا الإجماع؟ لماذا لم تتخذ الحكومات خطوات محسوبة وواضحة لتحسين حياة المواطنين؟ لماذا يبدو ثمة إدراك عام بأن الحكومة المقبلة ستظل امتدادا محزنا ومحبطا للسياسات الحكومية التي ترى الضبع وتبحث عن أثره؟ لماذا تتخذ الحكومات سياسات وقرارات واضحة وحاسمة في رفع الأسعار والضرائب والرسوم، وتبدي ترددا وإعراضا في التحصيل الضريبي ومواجهة التهرب والفساد، والارتقاء بمستوى الأداء العام.
ولأن الإصلاح لا يهبط من السماء ولا يحتمل الانتظار حتى يعود المسيح أو المهدي المنتظر، ولا يقوم بالضرورة على حكومة برلمانية أو غير برلمانية، ولا يضمنه أشخاص رائعون حتى لو حظينا بهم في الحكومة، وإنما يضمنه مجتمع متماسك ومستقل ومدرك لمصالحه وأولوياته، يعرف ماذا يريد من الحكومة وماذا يريد من نفسه، وتتحرك به ولأجله واقعيا قواعد اجتماعية منبثقة عن المدن والبلدات وجماعات الأعمال والمصالح والمهن القائمة، ونخبة فكرية وسياسية قادرة على الإبداع والتضحية، وتملك قدرا كبيرا من النزاهة والالتزام الجميل الخالص بالمثل والقيم والسياسات العامة الحاكمة لمسار الدولة والمجتمعات والأسواق؛ بسبب كل ذلك، فإن الحلقة المفقودة أو إحدى الحلقات الأساسية المفقودة في منظومة الإصلاح هي غياب المنظومة الاجتماعية الاقتصادية التي تجمع الناس والمصالح والجماعات والتيارات والأحزاب والبلديات والنقابات، وتنشئ منظومة فكرية وثقافية وفنية وتعليمية تحمي المجتمعات والموارد وتنظمها، وتنشئ على الدوام موارد وأفكار وقيادات ونخب جديدة متجددة؛ فلا إصلاح من غير إصلاحيين، ولا إصلاحيين من غير مجتمع ومصالح وموارد وأسواق حقيقية وقائمة تنشئ وتحمي القيادات والسياسات والأفكار والقيم الحاكمة لحياة الناس وأعمالهم وعلاقاتهم ووعيهم لذاتهم وما يحبون أن يكونوا عليه!
وهنا يمكن الإشارة إلى مجموعة من الحالات والأسباب التي منعت التشكل الاجتماعي الاقتصادي الصحيح والملائم للإصلاح والتقدم، وبعضها يبدو إيجابيا ومرغوبا، ما يجعل الإصلاح جدليا ومختلفا حوله.
أول الخلل في المنظومة الاجتماعية الاقتصادية كان سببه الهجرة الواسعة للعمل في الخليج. فقد كان العمل في الخليج، على عكس ما يبدو في ظاهر الأمر، نزفا اقتصاديا وخللا اجتماعيا وثقافيا يمنع الإصلاح والتشكل الملائم للإصلاح!
فهذه الهجرة الواسعة للكفاءات العلمية والمهنية، وغيابها الطويل عن مجتمعاتها وشبكاتها الاجتماعية والمهنية والاقتصادية، يصيب التنمية والتشكلات حول الموارد بضربة قاصمة. فالأعمال والموارد تتطور حول التدريب والممارسات والتجارب المهنية والعلمية، وتتطور المؤسسات التي يعمل فيها هؤلاء الشباب، كالجامعات والمدارس والشركات والمصانع وسائر الحقول العلمية والمهنية والحرفية. وينشئ أصحاب المهن والأعمال شبكة واسعة متراكمة من الخبرات والعلاقات والموارد، وينقلون ما لديهم للأجيال التالية، ويطورون مؤسساتهم ومجتمعاتهم. وفي مشاركتهم الاجتماعية والثقافية بعد العمل، في الأحياء والبلدات والمؤسسات الثقافية والاجتماعية والرياضية، تتشكل المجتمعات والقواعد الاجتماعية للإصلاح والأفكار والجدل. لقد خسرنا هذه الطاقات، وأضعنا الفرص الكبيرة ومتوالياتها الناشئة عنها.
ويعود المغتربون بأنماط واتجاهات في السلوك والثقافة والعلاقات والاستهلاك غريبة على المجتمع، ولا تلائم أهدافه ومصالحه. فالمنظومة الاجتماعية الثقافية، وما ينشأ عنها من سلوك واستهلاك وأسلوب حياة، تنشأ من تفاعل صحي وإيجابي وطويل ومتراكم، ولكن ما حدث عندنا أن المجتمع الأردني حُقن بأنماط واتجاهات في الاستهلاك والسلوك لا تناسبه ولا يقدر عليها، ولا توافق تركيبته الاجتماعية والثقافية، وأساليب العمل والحياة القائمة في الأردن. ووفدت أيضا اتجاهات في التدين واللباس والعلاقات الاجتماعية والفردية لا تخدم أهداف التنمية والتشكل الاجتماعي المطلوب. ففي الغربة، يتعود المغترب على العزلة وعدم الخوض في الشأن العام، ويتجنب إقامة علاقات اجتماعية ومهنية، وينحصر نشاطه الاجتماعي في التسوق وزيارة واستقبال أبناء بلده؛ فينقطع عن مساره الاجتماعي والمهني وفرصه في المشاركة والتأثير. ولدينا اليوم فئة واسعة من المواطنين نشأت في الخليج ليس لديها فكرة عن المشاركة السياسية والاجتماعية والمهنية وأزمة الموارد والأعمال والإصلاح.. نتحدث عن ثلث المجتمع معطل (بفتح الطاء وكسرها).
وحتى الحوالات المالية التي جرت العادة على اعتبارها مكسبا اقتصاديا وبمثابة صادرات للبلد تجلب المال من الخارج، فإنها أموال غير مرتبطة بمنظومة اقتصادية حقيقية، ولا تشكل رافعة حقيقية وفعلية في الإصلاح والتقدم، لأن القيمة الفعلية للأموال في كونها محصلة للأعمال والعلاقات والمؤسسات والإنتاج، وما يتشكل حولها من اقتصادات وأعمال أخرى، تبدو غير منظورة ولكنها أكثر أهمية من المال.الغد
لكن، برغم هذا الاتفاق في الرؤية بين جميع مكونات الدولة والمجتمع، لا يبدو ثمة تقدم واضح باتجاه هذه الأولويات والأهداف المتفق عليها في الحريات والعدالة الاجتماعية والكرامة والطاقة والمياه والتعليم والصحة والرعاية الاجتماعية والعمل والعدالة الضريبية ومواجهة الفساد والتهرب الضريبي والجمركي. فما هي الحلقة/ الحلقات المفقودة التي تجعل الموازنة والسلوك الحكومي والمجتمعي لا تعكس هذا الإجماع؟ لماذا لم تتخذ الحكومات خطوات محسوبة وواضحة لتحسين حياة المواطنين؟ لماذا يبدو ثمة إدراك عام بأن الحكومة المقبلة ستظل امتدادا محزنا ومحبطا للسياسات الحكومية التي ترى الضبع وتبحث عن أثره؟ لماذا تتخذ الحكومات سياسات وقرارات واضحة وحاسمة في رفع الأسعار والضرائب والرسوم، وتبدي ترددا وإعراضا في التحصيل الضريبي ومواجهة التهرب والفساد، والارتقاء بمستوى الأداء العام.
ولأن الإصلاح لا يهبط من السماء ولا يحتمل الانتظار حتى يعود المسيح أو المهدي المنتظر، ولا يقوم بالضرورة على حكومة برلمانية أو غير برلمانية، ولا يضمنه أشخاص رائعون حتى لو حظينا بهم في الحكومة، وإنما يضمنه مجتمع متماسك ومستقل ومدرك لمصالحه وأولوياته، يعرف ماذا يريد من الحكومة وماذا يريد من نفسه، وتتحرك به ولأجله واقعيا قواعد اجتماعية منبثقة عن المدن والبلدات وجماعات الأعمال والمصالح والمهن القائمة، ونخبة فكرية وسياسية قادرة على الإبداع والتضحية، وتملك قدرا كبيرا من النزاهة والالتزام الجميل الخالص بالمثل والقيم والسياسات العامة الحاكمة لمسار الدولة والمجتمعات والأسواق؛ بسبب كل ذلك، فإن الحلقة المفقودة أو إحدى الحلقات الأساسية المفقودة في منظومة الإصلاح هي غياب المنظومة الاجتماعية الاقتصادية التي تجمع الناس والمصالح والجماعات والتيارات والأحزاب والبلديات والنقابات، وتنشئ منظومة فكرية وثقافية وفنية وتعليمية تحمي المجتمعات والموارد وتنظمها، وتنشئ على الدوام موارد وأفكار وقيادات ونخب جديدة متجددة؛ فلا إصلاح من غير إصلاحيين، ولا إصلاحيين من غير مجتمع ومصالح وموارد وأسواق حقيقية وقائمة تنشئ وتحمي القيادات والسياسات والأفكار والقيم الحاكمة لحياة الناس وأعمالهم وعلاقاتهم ووعيهم لذاتهم وما يحبون أن يكونوا عليه!
وهنا يمكن الإشارة إلى مجموعة من الحالات والأسباب التي منعت التشكل الاجتماعي الاقتصادي الصحيح والملائم للإصلاح والتقدم، وبعضها يبدو إيجابيا ومرغوبا، ما يجعل الإصلاح جدليا ومختلفا حوله.
أول الخلل في المنظومة الاجتماعية الاقتصادية كان سببه الهجرة الواسعة للعمل في الخليج. فقد كان العمل في الخليج، على عكس ما يبدو في ظاهر الأمر، نزفا اقتصاديا وخللا اجتماعيا وثقافيا يمنع الإصلاح والتشكل الملائم للإصلاح!
فهذه الهجرة الواسعة للكفاءات العلمية والمهنية، وغيابها الطويل عن مجتمعاتها وشبكاتها الاجتماعية والمهنية والاقتصادية، يصيب التنمية والتشكلات حول الموارد بضربة قاصمة. فالأعمال والموارد تتطور حول التدريب والممارسات والتجارب المهنية والعلمية، وتتطور المؤسسات التي يعمل فيها هؤلاء الشباب، كالجامعات والمدارس والشركات والمصانع وسائر الحقول العلمية والمهنية والحرفية. وينشئ أصحاب المهن والأعمال شبكة واسعة متراكمة من الخبرات والعلاقات والموارد، وينقلون ما لديهم للأجيال التالية، ويطورون مؤسساتهم ومجتمعاتهم. وفي مشاركتهم الاجتماعية والثقافية بعد العمل، في الأحياء والبلدات والمؤسسات الثقافية والاجتماعية والرياضية، تتشكل المجتمعات والقواعد الاجتماعية للإصلاح والأفكار والجدل. لقد خسرنا هذه الطاقات، وأضعنا الفرص الكبيرة ومتوالياتها الناشئة عنها.
ويعود المغتربون بأنماط واتجاهات في السلوك والثقافة والعلاقات والاستهلاك غريبة على المجتمع، ولا تلائم أهدافه ومصالحه. فالمنظومة الاجتماعية الثقافية، وما ينشأ عنها من سلوك واستهلاك وأسلوب حياة، تنشأ من تفاعل صحي وإيجابي وطويل ومتراكم، ولكن ما حدث عندنا أن المجتمع الأردني حُقن بأنماط واتجاهات في الاستهلاك والسلوك لا تناسبه ولا يقدر عليها، ولا توافق تركيبته الاجتماعية والثقافية، وأساليب العمل والحياة القائمة في الأردن. ووفدت أيضا اتجاهات في التدين واللباس والعلاقات الاجتماعية والفردية لا تخدم أهداف التنمية والتشكل الاجتماعي المطلوب. ففي الغربة، يتعود المغترب على العزلة وعدم الخوض في الشأن العام، ويتجنب إقامة علاقات اجتماعية ومهنية، وينحصر نشاطه الاجتماعي في التسوق وزيارة واستقبال أبناء بلده؛ فينقطع عن مساره الاجتماعي والمهني وفرصه في المشاركة والتأثير. ولدينا اليوم فئة واسعة من المواطنين نشأت في الخليج ليس لديها فكرة عن المشاركة السياسية والاجتماعية والمهنية وأزمة الموارد والأعمال والإصلاح.. نتحدث عن ثلث المجتمع معطل (بفتح الطاء وكسرها).
وحتى الحوالات المالية التي جرت العادة على اعتبارها مكسبا اقتصاديا وبمثابة صادرات للبلد تجلب المال من الخارج، فإنها أموال غير مرتبطة بمنظومة اقتصادية حقيقية، ولا تشكل رافعة حقيقية وفعلية في الإصلاح والتقدم، لأن القيمة الفعلية للأموال في كونها محصلة للأعمال والعلاقات والمؤسسات والإنتاج، وما يتشكل حولها من اقتصادات وأعمال أخرى، تبدو غير منظورة ولكنها أكثر أهمية من المال.الغد