المتظاهرون وطنيون وإن غضبوا لحقّهم
لا ندري كيف هي العقلية المضطربة التي تستهل إطلاق الأوصاف الهزيلة وغير المبررة وغير المنطقية على المواطن الذي لم يعد يملك سوى ثمن صوته ليدفع به نحو الفضاء كي يشتري إلتفاتة من المسؤولين ليروا الحال الذي وصل إليه من بؤس العيش، وعلى الرغم من «صناعة الصبر» التي إحترفها الأردنيون في كفاحهم نحو عيش أفضل، ليتوارثه الأبناء عن الآباء، ولكن هذه المرة تجشموا عناء السفر إلى جوار ربهم في عمان، مع أن الحكومة برمتها تعلم جيداً سوء الوضع العام، ومع ذلك يخرج من يتهّم الناس بأنهم خونة، يا لطيف!
المعتصمون في قلب عمان يثبتون أن عمان في قلوبهم، فهم ينحازون إلى أرفع مستويات المسؤولية الوطنية والأخلاق العالية، وهم لا يمثلون نفراً مندساً يريد أن يحطم الصورة الجميلة للتظاهر ضد الإجراءات أو القوانين والذين هتفوا بكلام غير مقبول ولا منطقي، بل ويدركون أنهم لا يستطيعون فعل صفر بالمئة مما هتفوا به، ومع هذا لم يعتد منهم أحد على رجال الأمن ولم يحطموا زجاج سيارات المارة أو نوافذ المباني ولم ينهبوا المحال التجارية أو يشعلوا النيران في أي مرفق، بل أنهم باتوا يعلمون كيف تدار الأمور بسوية أعلى رقياً وتحضراً ورفقا.
من باريس،عاصمة الجمال والفن والديمقراطية والسياسة العتيقة، خرج المتظاهرون كقطعان الوعول ليهاجموا أفراد الشرطة، ويحطموا معالم فنية في الشوارع ويخربوا كثيراً من المرافق العامة ووصل التخريب إلى قوس النصر الذي يعتبر أحد الرموز المقدسة لدى الفرنسيين، واشعلت النيران في العديد من السيارات الحكومية وحوانيت الماركات العالمية، ورأينا كيف استوحش الجمهور المتظاهر الذي يقودهم حشد البزّات الصفراء فارتكبوا أخطاء فادحة أساءت لمجتمعهم ولصورة فرنسا، وأثبتوا أن هناك خطراً يعادل خطر الإرهاب الذي تطارده حكومتهم، وكذلك الحال في بلجيكا وبصورة أقل عنفاً، وهذا يثبت أن حسابات الحكومات مهما كانت ديمقراطية لا تراعي حسابات المواطنين.
لقد رأينا كيف جاء المعتصمون إلى مربع العبدلي الشميساني، حيث «الرئاسة» أمامهم، و»البوليفارد» خلفهم بكل ما يعني الترف المالي من تفريق بين من يرى ولا يقدر، وبين من يقدر ولا يرى عذابات المواطن الكادح، حيث جاء الآباء الكهول ليصرخوا في وجه الحكومة بسؤالهم : كيف نؤمن العيش والتعليم والصحة لأبنائنا برواتب متهالكة وقيمة شرائية لم تعد شيئاً، وعلى كل مسؤول أن يخرج ليجيب عن الأسئلة بلا تحامل ولا تجميل لبشاعة الواقع، ومع هذا فإن المجموع المتواجد يشكل عينّة حقيقية عما يصرخ به المواطنون في كل قرى ومحافظات المملكة وأحياء العاصمة الفقيرة.
الأردنيون ليسوا طارئين على المظاهرات والإعتصامات، بل هم من أوائل الشعوب العربية التي خرجت في العاصمة عمان منذ كانت قرية ليعبرّوا عن مشاعرهم تجاه قضايا العرب والتنديد بالإستعمار للدول الشقيقة، وضد السياسات الدولية التي استهدفت قضايانا المصيرية في فلسطين، وتضامنا مع إخواننا في سوريا والجزائر ضد ويلات الفرنسيين التي ساموهم بها، والعراق حين أمطرتهم السماء بأطنان القذائف والصواريخ، وأكثر من ذلك قبلها حين خرجوا يستقبلون طائرة الملك الحسين حين استطاع التفلّت من طائرات الجيران التي حاولت إستهدافه.
الأردنيون ما يزالون يعضون بالنواجذ على وطنهم وما تبقى لهم، ويتظاهرون للحفاظ عليه وإصلاح طريق مستقبله ومستقبل الشعب الوليد من أبنائهم، ومصلحتهم في الحفاظ على النظام والدولة بأركانها والشعب بمكوناته، وهذا يأتي بالتمكين لهم لا بالتخوين بهم، وعلى الحكومة فتح طريق ثالث بالمكاشفة للخروج من أزمة عصفت، والمثل الأردني يقول: لاقيني ولا تغديني.
الراي