فن الحب
يسارع إريك فروم في مقدمة كتابه "فن الحب"، الى التحذير من مظنة أن كتابه يشبه الكتب التي تزعم أنها تعلمك العلاقات العامة، وكيف تكسب الأصدقاء وتؤثر في الناس! وإنما هو كتاب علمي، يحاول فهم الحب كظاهرة نفسية وحياتية. ويؤكد أيضا في بداية كتابه، أن الحب "فن" يقتضي معرفة وبذل جهد، وليس إحساسا باعثا على اللذة، وأن ممارسة هذا الإحساس مسألة ترجع إلى المصادفة، وأنه شيء "يقع" الإنسان فيه إن كان محظوظا. وإذا أردنا أن نتعلم كيف نحب، فعلينا أن ننطلق بالطريقة نفسها التي ننطلق بها إذا أردنا أن نتعلم أي فن آخر؛ كالموسيقى والرسم، أو النجارة، أو الطب، أو الهندسة.
إن تعلم أي فن يحتاج إلى المعرفة النظرية، وإتقان المهارات العملية المتعلقة به. وعلى هذا الأساس، يشغل فروم كثيرا بفهم وتقديم "نظرية الحب". فالإنسان موهبته العقل، الحياة التي تعي ذاتها: أن لديه وعيا بنفسه وبرفاقه وبماضيه وبإمكانات مستقبله. هذا الوعي بالنفس باعتبارها ذاتية مستقلة؛ الوعي باتساع حياته القصية؛ الوعي بأنه قد ولد بدون مشيئته، وسوف يموت ضد مشيئته؛ الوعي بأنه سيموت أمام أولئك الذين يحبونه، أو أن أولئك الذين يحبونه سيموتون أمامه؛ الوعي بوحدته وانفصاله؛ والوعي بعجزه أمام قوى الطبيعة والمجتمع. كل هذا يجعل من وجوده المنفصل المفكك سجنا لا يطاق، وقد يصاب بالجنون إذا لم يستطع تحرير نفسه من هذا السجن وينطلق، ويوحد نفسه بشكل أو بآخر مع الناس؛ مع العالم الخارجي.
تعد الوحدة مع الجماعة الطريقة السائدة لقهر الانفصال. إنها وحدة تختفي فيها النفس الفردية إلى حد كبير، ويكون الهدف فيها أن تنتمي هذه النفس إلى القطيع. فإذا كنت أشبه كل شخص آخر، إذا كنت بلا مشاعر أو افكار تجعلني مختلفا، إذا كنت ممتثلا للعادات والزي والأفكار، لأنموذج الجماعة، فإنني أكون قد أُنقذت؛ أُنقذت من التجربة المرعبة للوحدة.
وفي سعيه إلى الاندماج بالمجتمع، يمارس الفرد الإبداع والحب، والخضوع والهيمنة والإنتاج. وفي مقابل الوحدة التكافلية، نجد أن الحب الناضج هو الوحدة، بشرط الحفاظ على تكامل الإنسان، وتفرديته.
الحب هو قوة فعالة في الإنسان، تقتحم الجدران التي تفصله عن رفاقه، وتوحده مع الآخرين. إن الحب يجعل الإنسان يتغلب على الشعور بالعزلة والانفصال، ومع هذا يسمح له أن يكون نفسه، أن يحتفظ بتكامله. وفي الحب يحدث الافتراق: اثنان يصبحان واحدا، ومع هذا يظلان اثنين.
وإذا أردت أن تستمتع بالفن، يجب أن تكون شخصا مدربا فنيا، وأن تكون شخصا لديه حقا تأثير دافع ونافذ على الآخرين. إن كل علاقة من علاقاتك بالإنسان والطبيعة يجب أن تكون تعبيرا محددا عن حياتك الفردية الحقيقية، متطابقة مع موضوع إرادتك. فإذا أحببت بدون أن تبتعث الحب، أي إذا كان حبك على هذا النحو لا ينتج الحب، إذا لم تستطع أن تجعل من نفسك شخصا محبوبا، إذن فإن حبك عقيم تعس.
وإلى جانب عنصر العطاء، فإن الطابع الإيجابي للحب يصبح جليا في أنه يتضمن دائما عناصر رئيسة معينة شائعة في جميع أشكال الحب، هذه العناصر هي: الرعاية، والمسؤولية، والاحترام، والمعرفة.
إن الرعاية والعناية تتضمنان جانبا آخر للحب، هو جانب المسؤولية. والمسؤولية اليوم تعني في الغالب الإشارة إلى الواجب؛ إلى شيء مفروض على الإنسان من خارجه. ولكن المسؤولية في معناها الحقيقي هي فعل إرادي تماما: إنها استجابتي لاحتياجات إنسان آخر؛ سواء عبر عنها أم لم يعبر.(الغد)
ibrahim.gharaibeh@alghad.jo