في إدراك الأولويات وترتيبها
ابراهيم غرايبة
جو 24 : السياسة اليوم تكتسب معنى ومحتوى جديدين ومختلفين. وبتعبير أصح، فإنها تستعيد معناها الأصلي الذي بدأت به قبل أن تأخذ معنى مستمدا من شأن واحد متخصص.
لقد بدأ معنى السياسة يتشكل حول معنى إدارة "البلد" أو المدن. والكلمتان اللاتينيتان "Politic" و"Policy" مشتقتان من الكلمتين الساميتين "بلت" و"بلس"، وتعنيان البلد أو المدينة. إنها "السياسة" ببساطة؛ تحسين وتنظيم حياة المدن بخاصة، والبلاد بعامة، ما يعني أنه لا سياسة من غير مدن وتمدن، لأنه لا يمكن قيام تنظيم سياسي إلا بالرابطة القانونية بين المواطنين، ووضع الروابط الأخرى كالقرابة والدين، في فضائها الحقيقي والخاص بها.
المدينة في جذرها الآرامي "الدين"، تعني العدل والقانون. و"يوم الدين" في القرآن الكريم هو يوم العدل؛ فهي أخذت تسميتها من صفتها الأساسية: "العدل"، أو المكان القائم على تنظيم قانوني؛ المكان الذي أنشأه القانون، ومرجعية الناس فيه هي القانون. وهدف الرسالة الدينية هو العدل: "لقد أرسلنا رسلنا بالبيّنات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقومَ النَاسُ بالقسط" (الحديد، الآية 25).
ثمة تعال "مريب" على المحتوى الحقيقي والمفترض للحكم والسياسة، والتنافس والتشكل الاقتصادي والاجتماعي حول هذا المحتوى. وهذا الإغراق الذي تمارسه الحكومة والمعارضة معا ضدنا، لتفريغ العمل السياسي والتشريعي والعام من محتواه المفترض أن يُشغل به؛ والانشغال الزائد عن اللازم في قضايا خارجية أو أقل أهمية؛ لم يعودا (الإغراق والانشغال) محيرين، ولكنهما يشجعان على الاستنتاج بأن ثمة تهرب متعمد من الإصلاح الحقيقي والفعلي، وربما سلوك سياسي نخبوي استعلائي يفيض بكراهية الناس والمجتمعات وتقدير أولوياتهم ومشاركتهم؛ أو أنه في حالة حسن الظن انفصال مَرَضي عن الواقع!
في الولايات المتحدة، أعظم وأغنى دولة في العالم وربما في التاريخ، يقوم الجدل السياسي والانتخابي للرؤساء وحكام الولايات حول الضريبة والتأمين الصحي والتعليم.. فلم تكن السياسة الخارجية والعلاقات الدولية موضع جدل أو اختلاف كبيرين. وفي بلادنا، فإن الحكومات والمعارضات والحراكات والجماعات والأحزاب، تفضل الجدل والتظاهر حول قضايا غيبية وخارجية، وفي أحسن الأحوال قانون الانتخاب والتعديلات الدستورية.. ولا مكان لك في التأييد أو المعارضة سوى هذه القضايا.
وأسوأ حالة في العمل العام ما يواجه العاملين لأجل تصويب المحتوى والأولويات؛ فلا ينجحون في اجتذاب المؤيدين المفترضين، ولكنهم يجتذبون سخطا مشتركا متواطأ عليه؛ يجتذب أعداء هذه القضية والمتضررين منها، فيكون لك أعداء كثيرون وليس لك أصدقاء. والأصعب من ذلك أنها قضايا أساسية وذات أولوية قصوى؛ مثل استقلال المجتمعات وتمكينها، والعلاقة بين الدين والسلطة والسياسة والثقافة، والدور الاقتصادي والاجتماعي للدولة، والعلاقة بين المجتمعات والشركات والقطاع الخاص بعامة، والتجمعات السياسية والاجتماعية حول الاحتياجات والبرامج الأساسية؛ التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية والثقافة، والتنظيم المجتمعي للمياه والطاقة، وولاية المجتمعات على الدين والثقافة والرياضة.. والتشريعات المنظمة لحياة الناس ومصالحهم على أساس عادل، مثل الضريبة والعمل والضمان الاجتماعي.
وأسوأ من ذلك كله، هو القدرة المدهشة على إنشاء حالة من الاستعلاء على القضايا والأولويات الرئيسة، والاعتزاز بـ"سولافة" الصراعات الدولية والإقليمية، والانتخابات والأحزاب السياسية. (الغد)
ibrahim.gharaibeh@alghad.jo
لقد بدأ معنى السياسة يتشكل حول معنى إدارة "البلد" أو المدن. والكلمتان اللاتينيتان "Politic" و"Policy" مشتقتان من الكلمتين الساميتين "بلت" و"بلس"، وتعنيان البلد أو المدينة. إنها "السياسة" ببساطة؛ تحسين وتنظيم حياة المدن بخاصة، والبلاد بعامة، ما يعني أنه لا سياسة من غير مدن وتمدن، لأنه لا يمكن قيام تنظيم سياسي إلا بالرابطة القانونية بين المواطنين، ووضع الروابط الأخرى كالقرابة والدين، في فضائها الحقيقي والخاص بها.
المدينة في جذرها الآرامي "الدين"، تعني العدل والقانون. و"يوم الدين" في القرآن الكريم هو يوم العدل؛ فهي أخذت تسميتها من صفتها الأساسية: "العدل"، أو المكان القائم على تنظيم قانوني؛ المكان الذي أنشأه القانون، ومرجعية الناس فيه هي القانون. وهدف الرسالة الدينية هو العدل: "لقد أرسلنا رسلنا بالبيّنات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقومَ النَاسُ بالقسط" (الحديد، الآية 25).
ثمة تعال "مريب" على المحتوى الحقيقي والمفترض للحكم والسياسة، والتنافس والتشكل الاقتصادي والاجتماعي حول هذا المحتوى. وهذا الإغراق الذي تمارسه الحكومة والمعارضة معا ضدنا، لتفريغ العمل السياسي والتشريعي والعام من محتواه المفترض أن يُشغل به؛ والانشغال الزائد عن اللازم في قضايا خارجية أو أقل أهمية؛ لم يعودا (الإغراق والانشغال) محيرين، ولكنهما يشجعان على الاستنتاج بأن ثمة تهرب متعمد من الإصلاح الحقيقي والفعلي، وربما سلوك سياسي نخبوي استعلائي يفيض بكراهية الناس والمجتمعات وتقدير أولوياتهم ومشاركتهم؛ أو أنه في حالة حسن الظن انفصال مَرَضي عن الواقع!
في الولايات المتحدة، أعظم وأغنى دولة في العالم وربما في التاريخ، يقوم الجدل السياسي والانتخابي للرؤساء وحكام الولايات حول الضريبة والتأمين الصحي والتعليم.. فلم تكن السياسة الخارجية والعلاقات الدولية موضع جدل أو اختلاف كبيرين. وفي بلادنا، فإن الحكومات والمعارضات والحراكات والجماعات والأحزاب، تفضل الجدل والتظاهر حول قضايا غيبية وخارجية، وفي أحسن الأحوال قانون الانتخاب والتعديلات الدستورية.. ولا مكان لك في التأييد أو المعارضة سوى هذه القضايا.
وأسوأ حالة في العمل العام ما يواجه العاملين لأجل تصويب المحتوى والأولويات؛ فلا ينجحون في اجتذاب المؤيدين المفترضين، ولكنهم يجتذبون سخطا مشتركا متواطأ عليه؛ يجتذب أعداء هذه القضية والمتضررين منها، فيكون لك أعداء كثيرون وليس لك أصدقاء. والأصعب من ذلك أنها قضايا أساسية وذات أولوية قصوى؛ مثل استقلال المجتمعات وتمكينها، والعلاقة بين الدين والسلطة والسياسة والثقافة، والدور الاقتصادي والاجتماعي للدولة، والعلاقة بين المجتمعات والشركات والقطاع الخاص بعامة، والتجمعات السياسية والاجتماعية حول الاحتياجات والبرامج الأساسية؛ التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية والثقافة، والتنظيم المجتمعي للمياه والطاقة، وولاية المجتمعات على الدين والثقافة والرياضة.. والتشريعات المنظمة لحياة الناس ومصالحهم على أساس عادل، مثل الضريبة والعمل والضمان الاجتماعي.
وأسوأ من ذلك كله، هو القدرة المدهشة على إنشاء حالة من الاستعلاء على القضايا والأولويات الرئيسة، والاعتزاز بـ"سولافة" الصراعات الدولية والإقليمية، والانتخابات والأحزاب السياسية. (الغد)
ibrahim.gharaibeh@alghad.jo