أنطمة الحكم والشعوب بين الواقع والطموح
من الطبيعي بعد زوال أي نظام حكم أن تدخل الدولة بنوع من الفوضى والتخبط والإرتجال وهي تتلمس وسائل الحكم واختيار أدواته سعيا لتحقيق التوافق بين مطالب وطموح الشعب وبين ما يراه الحكم الجديد صوابا. وهذا الحال من المسلمات التي تأتي نتيجة حتمية خصوصا بعد نظام غير وطني وإقصائي حكم لمدة طويلة جاءت به ظروف التسلسل الوظيفي دعمها بانتخابات مزورة بنسبة اقتراع لا يحوز عليها إلا الأنبياء والصحابة كما الحال بمصر السادات ومبارك.
هذا الحال ينسحب على جميع الدول العربية تقريبا باستثناء لبنان الذي له خصوصيته السياسية والدينية ويمارس مستوى متقدم من الديموقراطية. الأنظمة العربية قائمة على الوراثة أو الإنقلابات. الشعوب العربية بغالبها معنية ومنشغلة بالحفاظ على إنسانيتها التي يحاول السياسيون جعلها تتماهى مع الحيوانية. وحقيقة الوضع القائم على صعيد الدول العربية يتلخص بوجود فريقين أولهما الحكام وثانيهما الشعوب. ومن المعلوم أن الديموقراطية لا تتحقق إلا باختيار الشعوب لحكامها إن رئيسا بحال الجمهوريات وإن حكومة بحال الملكيات.
نستثني بعض الحالات في بعض دول العالم ونجاحها بالتمسك بالنظام الملكي الوراثي الصوري على عكس الأنظمة الوراثية العربية مثل إسبانيا. المخرج من هذا الموروث الذي لم يعد ملائما وغير منسجم مع تطلعات وطموحات الشعوب هو كيفية الحكم ومدى ما يحققه من مكتسبات وإنجازات. الأسماء الحاكمة لا تعني الكثير للشعوب بقدر ما تعنيه آلية الحكم والإدارة التي من خلالها يلمس الشعب تحقيق العدالة والمساواة واحترام إنسانية الشعب الذي هو صاحب السلطات. فنجاح أي حاكم باي دولة يقوم على مدى توافق النهج والسياسات التي تتبناها مؤسسة الحكم مع ما يطمح له الشعب ويحقق رضاه ومباركته.
فما الذي يمنع حاكم من أن يتخذ العدل والعدالة مرتكزا يقوم عليه اتخاذ قرار ما أو تعيين مسؤول ما؟؟ ربما الإجابة تكمن بالشعور المسبق بشرعيته المختلة وبالتالي يتولد شعور بالتوتر والتوجس من أسباب الزوال. وعليه فالحاكم يلجأ لخلق دوائر متنفذة تسانده بالحكم ويغدق عليها المال والمناصب حتى يضمن ولاءها وتبقى الواجهة أمام الشعب وتتلقى الصدمات وتصبح لا مفر لها إلا أن تلعب دور الساتر للحاكم كونه ولي نعمتها وبهذا تكون قد عزلت نفسها عن الشعب وناصبته الخصام وربما العداء وصارت تعمل بكل قوتها للحفاظ على نفسها من خلال تفانيها بالحفاظ على الحاكم.
فمن أين للديمقراطية أن تتحقق وأبسط قواعدها ملغية من حسابات المنادين بشعاراتها؟؟ وكيف للعدالة أن تمارس والبلدان منقسمة بين الشعب والدولة؟؟ وكيف للشعب أن يحقق الرفاه ولو بحدوده الدنيا وخير الأوطان يذهب لصالح دائرة ضيقة هي التي تقرر وتمنع وتسمح وتوافق أو لا توافق؟؟ وضع كهذا يدفع بالشعوب للتساؤل : إلى متى سيبقى الحال هكذا؟؟ الصبر قد نفذ والإحتقان قارب على الإنفجار والناس تخرج للشارع لتسمع صوتها وتعبر عن رفضها للكيفية التي يحكمون بها والأدوات التي تمارس كافة الضغوط عليهم لإيصالهم للهاوية. والرفض أساسه غياب العدل الذي هو أساس الحكم وبالتالي لا مساواة ولا حقوق مما يجعل الشعب يعامل بطريقة تقترب كثيرا من معاملة الحيوانات.
يزداد القلق لدى الساترين ويزداد تمسكهم بمكتسباتهم التي حققوها دون عناء وهي ما يربطهم بولي نعمتهم وبالتالي يتولد الإنتباه والحذر والخوف من اعتلاء الأصوات المعارضة والمطالبة بحقوقها والساعية لتصويب المسار والتغير والتجديد. وعندها يتولد شعور بالإستهداف من قبل الشارع أي الشعب. الحلحلة لن تجدي وتحريك أحجار الشطرنج وتغيير أماكنها لن تقنع الشارع بقدر ما يفهما أنها شراء للوقت وتخدير للناس.
هناك مفهوم إداري مؤداه أن المدير الناجح هو من يكسب ود ورضى موظفيه وبالتالي يعملون كفريق واحد من أجل تحقيق أهداف مؤسستهم بمنتهى اليسر والسلاسة. ولو عكسنا نفس القاعدة ونكون أمام مدير متسلط وقاسي ينفر منه جميع موظفيه لصعب تحقيق الأهداف ولفشلت المؤسسة بالوصول لتحقيق ما تطمح إليه جراء إدارة مديرها. نفس الحال ينطبق على إدارة الدول. سياسات لا ترضي الشعب ولا تحقق طموحه يعني فشل يترتب عليه التغيير والإصلاح الذي يتحقق بعد دفع ثمن باهظ جدا من قبل النظام والشعب.
ما يجري بمصر ليس ببعيد عن هذا السياق. نظام مبارك ورث الحكم من السادات والأخير ورثه من عبد الناصر وتخللت حكم السادات ومبارك إنتخابات صورية وعبدالناصر كان الرجل الثاني بعد محمد نجيب بانقلاب عسكري على الملك فاروق تمت ترقيته إلى رتبة ثورة ثم انقلب عبد الناصر على رئيسه ونحاه وتسلم الحكم. حتى لا نبدو من المتجنين أو الناكرين نذكر أن عبدالناصر كان أحد أقطاب العالم الثلاث ومن مؤسسي منظمة عدم الإنحياز وأمم قناة السويس وبنى السد العالي وجعل التعليم مجانيا وبالوقت نفسه لا ننسى هزيمة 1967 والدور المأمل من زعيم ملأ الدنيا صراخا بالدعوة للتحرر ومقارعة الإمبريالية. والسادات صاحب إنتصار 1973 ومستعيد سيناء وموقع معاهدة كامب ديفيد وما بها من تكبيل وتقييد لمصر .
مبارك لا نتذكر من حكمه إلا الإخلاص والولاء لأمريكا ولعب دور المساند لها بحربها على عراق صدام حسين مستغلا ثقل مصر السياسي ووجود الجامعة العربية على أرضها. الفرق بينه وبين السادات أن الأخير كان ينطلق من قناعات وطنية لا نستطيع إنكارها، أما مبارك فكان انبطاحي تنقصه الحنكة والدهاء السياسيين ومستمع ومنفذ جيد ومخلص لرغبات الأمريكان حتى انتهى من دوره.
فجاء محمد مرسي أول رئيس مصري منتخب قادم من جماعة الإخوان المحاربة من الجميع وغير مرضي عنها تماما من الدول الغربية. فكانت أسباب النجاح والإستمرار أمامه شبه معدومة وهو القادم بعد نظام فاسد نخر فساده كل مؤسسات الدولة وكان ساتروه يتصرفون وكأنهم يديرون مزرعة وليس دولة شعبها من أعرق شعوب الدنيا وأقدمها.
لم يكن من السهل على مرسي أو غيره أن يظهر إصلاحه وترميمه لمؤسسات الدولة بالمدة التي تولى بها الحكم. أزيح مرسي بانقلاب أخذ يثبت للقاصي والداني انه أنقلاب عسكري بامتياز خصوصا بعد البيانات المتلاحقة والصادرة عن الجيش والتي من خلالها يتم رسم المعالم السياسية للدولة المصرية، وما الرئيس المؤقت وحكومته سوى واجهة يحكم السيسي من خلفها أحيانا ومن خلالها ورغما عنها أحيانا أخرى.
انقسم الشعب لفريقين مؤيد لمرسي ومؤيد للعسكر. وكل فريق يرى نفسه على حق بما يدعو له. الأول متمسك بالشرعية وصناديق الإقتراع والثاني سيسته وقولبته الأحزاب الليبرالية الرافضة لحكم الإسلامين من حيث المبدأ. وما زاد الطين بلة هرولة الدول العربية لمباركة الإنقلاب ومكافأة الإنقلابيين بمليارات الدولارات معتبرة إياه نصرا لها ضد الإخوان.
الآن نحن أمام دعوة الحاكم العسكري المصري لنزول الناس " الشرفاء " إلى الساحات والميادين لتفويضه بمحاربة الإرهاب والعنف، وهي دعوة لتكريس الإنقسام وخلق أسباب التصادم والإقتتال والقتل من قبل الجيش بحجة تفويض الشعب ليبطش ويقمع ويقصي. لقد كانت دعوة بلهاء تنقصها الحكمة سمتها التسرع وإشهار العداء لفريق غفير من الشعب المصري.
عند وجود إرهاب أو عنف يستدعي تدخل الجيش، فهل هناك ما يمنع من تدخل الجيش لفرض الأمن وحماية الشعب؟؟ وهذه الدعوة جاءت بمثابة توجيه تهمة الإرهاب للفريق المؤيد لمرسي من رأس مؤسسة الحكم وهو تجاوز وحرام لم يقربه أحد من قبل. وقد فات السيسي أنه يدعو للتجييش والتأجيج وشل الحركة اليومية للبلد وما يترتب على ذلك من تبعات اقتصادية وضرر بالمصالح والسياحة التي هي أحد أهم شرايين الإقتصاد المصري. وبالتالي هذا يعني الإنجرار نحو حرب أهلية الجيش أحد طرفيها. وعندما يضع الجيش نفسه خصما لفريق ما, يعني هناك قتل ودماء وبطش. هل هذا ما أراده الفريق السيسي؟؟
فحوى الدعوة كان مستفزا ومثيرا لحفيظة الإخوان وأنصارهم إذ دفعتهم هذه التهمة وهذه الدعوة والحجج الواهية ليزيدوا من رص صفوفهم وزيادة وتيرة إصرارهم على موقفهم مما ينذر بوقوع ما لا نتمناه من صدام مع الفريق الآخر والجيش والأمن مما يدخل مصر بفوضى وصراع لا نستطيع التنبؤ بنهايته.
سؤال نوجهه للفريق السيسي : هل الشعب قام بتفويضك عندما انقلبت على النظام الشرعي المنتخب؟؟ لقد ارتأيتم أنتم العسكريين من وجهة نظركم أن الوضع يستدعي لتدخل الجيش للحفاظ على الأمن ومستقبل الدولة. إذا أنتم لا تحتاجون تفويضا من الشعب الآن طالما ومن وجهة نظركم أيضا أن الحال يستوجب تدخل الجيش لمحاربة الإرهاب المزعوم إذ بإمكانكم التدخل متى شئتم عندما ترون مسوغا للتدخل.
الفريق المؤيد لمرسي ليسوا بالشياطين ولا بمخلوقات فضائية غريبة بل جزء من الشعب المصري الذي يرى أن مصلحته تتحقق عن طريق هذا النظام. وأيضا الفريق المؤيد للإنقلاب ليسوا بالملائكة بل هم أيضا جزء من الشعب المصري استقطبته الأحزاب والدافعين باتجاه القضاء على كل ما يمت للإسلام بصله. أي نظام حاكم لا يكون مثاليا إلا إذا تحرى العدل والعدالة والمساواة واقترب من الشعب وأزال الحواجز التي تقف حائلا بينه وبين شعبه.
فلا نظام مرسي بمثالي ولن يكون نظام السيسي بالمثالي أيضا إلا إذا سادت الحكمة والتعقل ومصلحة الشعب والدولة. لذلك ندعو العقلاء من المصريين وغيرهم من العرب أن يخافوا الله بمصر وشعبها لتبقى الرائدة بشعبها العظيم لتعود لسابق عهدها المؤثر والفعال والداعم للقضايا العربية وهي الدولة ذات الثقل السياسي والسكاني والثقافي والعلمي والفني.
حمى الله الأردن والأمة والغيارى عليهما. والله من وراء القصد.