ظاهرة علينا التخلص منها
من الظواهر، بلى ظواهر، التي يندى لها الجبين بوطني ويقف المرء أمامها حيرانا حزينا وهو يرى الفاسدين متسيدين متنفذين يعبثون بمقدرات الوطن ويعملون بكل طاقتهم لخلق مسببات الهلاك والدفع للوراء. وهي ظاهرة ليست جديدة على المجتمع الأردني، بل في السابق كان هناك من يكسر ويجبر، لكن ظاهرتنا هذه قد زادت حدتها وانكشفت خفاياها حتى أصبحت هي القاعدة والاستثناء نادر وإن حصل فهو للتغطية وذر الرماد.
ومن المفارقات الغريبة والتي عادة ما تحدث بالمجتمعات ذات الأنظمة الفردية والثورية أن تجد الأبواب موصدة والفرص شبه معدومة أمام رجال ديدنهم، الوطن ليصان وليس ليباع ويفتدى بالغالي والنفيس وليس ليقتل ويفقر. والدهشة تكبر وتكبر لتصل مستوى الصدمة عندما نرى أن الوطن يدار وكأنه ملكية خاصة لا شأن للشعب وقياداته الوطنية ورجاله الغيارى ولا حساب للنتائج الوخيمة التي يمكن أن يسببها التهميش المؤدي للإحتقان الذي يدنو من الإنفجار. فنرى الأبواب مشرعة والفرص متوفرة أمام المتاجرين بأرزاق المواطن ونراهم يتصدرون المشهد ويقررون مستخدمين فنونهم المبنية على حب الذات وإهلاك الوطن مثلما نرى نهجهم الدال على فقدانهم للإنتماء بينما الغيارى في الصفوف الخلفية يطلب منهم التصفيق والتأييد والسكوت عما يرونه يصنع بالوطن.
أليس هذا هو واقعنا؟؟ أليس الرجوع والتراجع عن النهج القويم هو ما أوصلنا لحال نحن به حاضنة لما يطرح أمامنا من سياسات تتلاعب بمصيرنا وتقودنا نحو مستقبل باتت معالمه تتضح شيئا فشيئا؟؟ هل نتجنى على أحد بهذا الطرح أم هي الحقيقة والواقع، المران واللذان لا فكاك منهما إلا بقيادات عاهدت ربها أن الوطن غالٍ فلا ثمن له ومقدراته لها من القدسية ما يجعلها ثابتة مصانة؟؟. وكلنا يرى العيون مغمضة عمن تسلحوا بالغيرة على وطنهم وتزودوا بالقيم النبيلة ونهجوا خطا ينسجم مع الطبيعة التي فطرت عليها العشيرة الأردنية والتي قامت عليها دولة تأسست على تكاتف أبناء الوطن الغيارى محتضنين نظاما قبلوا به وارتضوه ودافعوا عنه من خلال دفاعهم عن ديمومة وطنهم.
ليس جلدا لذاتنا ولكن لنتعظ ونصحو قبل أن يفوتنا القطار لأننا بصدد الحديث عن وطن وشعب ومستقبل وليس حديثنا عن نزوة أو مصلحة آنية أو رغبة وقتية. الأردن يدار من قبل حاملي الثقة وهم ليسوا أهلا لها، بل هو محطة ونقطة عبور يغادروها بعد التزود عبر وسائل غير مشروعة. وما يدعونا للدهشة والحيرة أن هؤلاء السماسرة والباعة معروفون بالأسماء وعبثهم شاهد على ما سببوه للوطن من عوز.
الكثير من الأشياء تعرف بأضدادها، فمثلما لدينا من يهدمون ــ وهم موجودون بكل المجتمعات إلا أننا أمام ظاهرة تتسع وتترسخ ـــ لدينا رجال وطن عملوا ويعملوا بصمت وأصحاب تاريخ مشرف ومليء بالعطاء والتفاني وأياديهم نظيفة لم تتلطخ بقذارة منابع الفساد لأن شعارهم الوطن أولا. ولذلك لم ينالوا نصيبهم من المواقع المنتجة بل مواصفاتهم ونهجهم ونشأتهم لا تنسجم ولا تتوافق مع المواصفات التي على أساسها للأسف يتم الإختيار للمواقع السيادية والمنتجة والتي تقوم بالمقام الأول على النفعية والتكسب والإسترضاء على حساب الأردن والغيارى.
هناك شخصية وطنية خدمت وطنها ولم تنتظر مقابلا وصاحبها يمتلك من الخبرة العسكرية والإدارية والقيادية والعلمية ما يؤهله للارتقاء بنوعية العطاء والإدارة ويكبر الموقع به. وشخصيتنا هي الفريق الركن الطيار المتقاعد محمد خير عبد الحميد عبابنه الذي خدم وطنه وأفنى سنين عمره بفخر بخدمة وطنه ومليكه كأحد ألمع القادة وأكثرهم كفاءة واقتدار من خلال خدمته الطويلة بسلاح الجو الملكي التي انتهت به قائدا لسلاح من أهم الأسلحة وأكثرها حساسية ويكاد أن يكون أول الغيارى الذين ارتقى بهم هذا الموقع المهم والخطير. لقد كانت احترافيته ومهنيته بالقيادة والإدارة مدرسة تشهد له بالكفاءة والخلق وتتحدث عن منجزاته.
لقد كان محمد خير باشا العبابنة قائدا فذا يعمل بأرقى الأساليب الإدارية والقيادية ما جعله يترك بصماته الواضحة على نمطية العمل على كافة من عملوا معه. وقد عمل بمهنية قل نظيرها ولم يخش بقول الحق لومة لائم ولديه من الجرأة والشجاعة والغيرة ما يمكن أن يكون سببا بعدم مواءمته وانسجامه مع المناخ العام القائم على الطاعة العمياء التي تنحدر بصاحبها لدرجة الخنوع وذوبان الشخصية.
فلم يكن أبا المعتصم من الأشخاص الذين تنطبق عليهم مواصفات أصحاب المواقع العليا. وبالتالي يتقدم ويرتقي ويعتلي من لا ينهجون نهجه. فلم يتلوث ليرتقي ولم يكن فاسدا ليعتلي ولم يكن طيّعا ولم يكن لينا إلا بالقدر الذي يتطلبه الموقف ويخدم وطنه ويتفق مع مثله وقيمه التي نشأ عليها بظل والده المرحوم الشيخ عبد الحميد العبابنة. مثل وقيم استمدها من عشيرته لا تهادن بالحق ولا تقبل بأن يُمس الوطن وهيبته. وهي قيم رفدت الوطن مع باقي العشائر العربية الأردنية بالقوة والمنعة.
وقد صقل قيمه هذه من خلال تجربته العسكرية الطويلة واستلهم رؤى الحسين طيب الله ثراه فكانت الهادي له بعد الله مؤمنا أن الوطن لا يخدمه إلا الغيارى مهما كانت منابتهم. لكنا نرى الأبواب توصد أمام من هم بمواصفات أبي المعتصم. فهل يراد للأردن أن يتولاه العابرون؟؟ أكاد أجزم أن ظاهرة كهذه من علامات الساعة الصغرى إذ نرى الفاسدين والمارقين والبرامكة يتسيدون بينما الغيارى ورجالات الوطن الأوفياء والذين عملوا على صون الوطن وحافظوا على نظامه وتماسكه نراهم مبعدون مهمشون وخارج معادلة الإختيار.
العبابنة قدم لوطنه الكثير كباقي الغيارى, وهو الأمر الطبيعي المتوقع من أبناء الوطن المنتمين, لكن أعضاء المطبخ السياسي لا ترى عيونهم إلا من هم من طراز يتحلى بعقلية طيّعة مطواعة. وتاريخ الرجل معروف إذ كبر سلاح الجو بقيادته, مع تقديرنا واحترامنا لكل القادة أمثال العبابنة. لقد مارس القيادة عمليا منذ أن كان ضابطا ببداية حياته العسكرية. وقد كان طيارا محترفا وذو مهارات طيران رفيعة تراكمت لديه خلال خدمته الطويلة جعلته بمصاف الطيارين الذين على التاريخ الأردني أن يخلد هم وقد ضرب الرقم القياسي بعدد ساعات الطيران التي تشهد على احترافيته.
فمحمد خير عبابنه جدير بالتكريم ومؤهل للعطاء لوطنه والإستفادة من قدراته القيادية والإدارية التي قلما تتواجد لدى غيره. وصناع القرار مطالبون بالسعي لفتح الأبواب المغلقة أمام المؤهلين لتمكين الشخصيات القادرة من أن تساهم مع قيادتها على المضي لتحقيق ما من شأنه صون الوطن ورفعته. الحاجة باتت ماسة لإعادة النظر بالأسس والمعايير التي تهيكل الإدارة والنهج والأشخاص.
ما تقدم هو كلمة حق وشهادة استحقها الباشا ولم أكتب هذه السطور بدافع قربى الدم بقدر ما هو تسطير لواقع عايشته عسكريا ومدنيا. وتلك تذكرة لأصحاب القرار علهم يتذكروا أبناء الوطن الغيارى الذين لديهم القدرة والإستعداد والتأهيل والكفاءة لكي يرتقوا بالوطن إذا تغيرت معايير الإختيار.
حمى الله الأردن والغيارى على الأردن. والله من وراء القصد.
ababneh1958@yahoo.com