الإشكالية في بناء فلسفة القوانين
شهدت المملكة على مدار السنة الماضية حالة حراك عام فردي ومؤسسي على صعيد تطوير التشريعات، كان ذلك إعمالاُ للتعديلات الدستورية التي طرأت في نهاية عام 2011، ما لبثت تلك القوانين إلا أن خضعت للتعديل مرة أخرى وفي إطار زمني أقل من سنة أو سنتين ، من جهة أخرى لم تحقق هذه التشريعات الرضاء المقبول منها على صعيد المخاطبين بالقاعدة القانونية أو بين أوساط المطالبين بتعديلها أفراد ومؤسسات على حدٍ سواء، الأمر الذي يؤكد عدم وجود خطة وطنية واضحة تجاه بناء التشريعات بالتوازي مع خلو المؤسسات من منهج علمي يتم الركون إليه وسلوكه في كافة مراحل التعديل، في الجانب المقابل لم نرصد أي عمليات لفتح حوارات وطنية حول الإعمال التحضيرية لقانون إلا في النزر البسيط في بعض القوانين والهدف والغاية من فتح النقاش حقيقة لم يكن لجمع ملاحظات تشكل أـساسا في بناء القاعدة القانونية وإنما هي عملية شكلية في محاولة لاستقطاب مؤيدي التشريع محل النقاش بمعنى أخر إضفاء شرعية أمام الرأي العام وصانع القرار في تطوير وتعديل التشريعات الوطنية .
الأصل العام أن تكون الخطوة الاستباقية في كل تشريع يراد تعديله أو إقراره أن يون لدى المؤسسات الرسمية القدرة والكفاية والمعرفة في معرفة فلسفة القانون محل النقاش ويدرك الجميع بأن هناك مبادئ عامة لا يجوز تجاوزها أو الخروج عليها وتمثل بالنتيجة غاية القانون أو روح القانون ، وعليه يجب مراعاة ذلك حتى لا تمثل القوانين الوطنية وجهات نظر تنم عن فهم واحد أو تؤدي غرضا معينا مما يستحيل عملياً تطبيقها، وتغدوا تلك القاعدة مشوهة لعدم تحقيق الغاية المقصودة والمنشودة منها وهي تحقيق العدالة.
في الواقع العملي شهدت التشريعات الوطنية حالة اضطراب عام أقرب ما يمكن وصفها بفوضى تشريعية، مرد ذلك ، عدم وجود توجه عام معلن وواضح لدى الجهات المشتغلة بالتشريعات الوطنية تسير على هديه في بناء منظومة التشريعات الوطنية ، حيث أن عملية صناعة التشريع ليست خطوات منحلة من عقالها وإنما نهج علمي ثابت مستقر، بل أضحى بإمكان المختصين والمطلعين القدرة على تشخيص وتحليل القاعدة القانونية وتحليل تراكيبها اللغوية واستنباط الغاية القصوى المتوخاة منها، يكون ذلك سهلاً ويسيراً عندما يكون سبب التشريع استجابة انفعالية، والتي لا تستطيع تلك المؤسسات التواري أو لا تملك القدرة والكفاية على أدلجة القاعدة القانونية لتسير ضمن السياق العام المجتمعي وتشكل رافداً حقيقياً لمجتمع يعتقد بأن تلك القاعدة تقع في المصلحة العامة ولا تشكل خرقاً لخصائص القاعدة القانونية المستقرة في كل المذاهب والمدارس القانونية.
إن لزوم البناء التشريعي العام للدولة - أكاد أجزم - بأنه من أعقد المسائل التي يتصدى لها المشتغلون بها وأسهل المسائل التي يتنطع لها مرتزقة ومتسولو العمل العام، والعملية التشريعية ليست حكراً على المشتغلين بالقانون، وإنما كل تشريع وفقاً لمضمونة والفئة المستهدفة منه تطبيق القاعدة مضمونة يحتاج إلى مختصين من حقل ذلك العلم يساهمون بشكل رئيس وفاعل في تحديد الوقائع المادية والأفعال التي تحتاج إلى قاعدة قانونية إما لحمايتها أو للنهي والزجر عنها ، فضلاً عن طرحه للعلن لفترات طويلة وفتح حوارات ونقاشات مكثفة للاستدلال على السلوك الاجتماعي لجموع الناس والذي تمثل القاعدة محل الصياغة تنظيماً وتقنيناً لها ، من هنا يمكننا القول بأن أي قاعدة قانونية هي مدار بحث وتحليل ومناقشة ودراسة مستمرة من قبل جميع أفراد المجتمع ونجاح القاعدة القانونية يتناسب طردياً مع عرضها للنقاش الأكثر والأوسع على كافة شرائح المجتمع الذين هم محل التطبيق الفعلي لتلك القواعد.
يلي ذلك جمع هذه المطالب والاحتياجات بشكل علمي وفقاً لمنهج تحليلي واستخراج منها المبادئ العامة التي تشكل حد إجماع من الجمهور، هنا تكمن الجراحة التشريعية بأن يلتقط المشتغل بالتشريعات هذه المبادئ والاحتجاجات ويبدأ بكل حياد وموضوعية وتوازن وحرفية بمطابقتها للعديد من المبادئ والقواعد الدستورية، الأعراف والقيم الاجتماعية ، حقوق وواجبات الأفراد ، وحديثاً استقر منهج علمي تشريعي بات يلقي بظلاله هو مراعاتها لحقوق الإنسان من عدمه، فتتم عملية قراءة متأنية لتلك المبادئ والنظريات والمبادئ العالمية المستقرة في الضمير الجمعي للعالم والتي تمثل الإعمال الحقيقي للحقوق والحريات وأفضل الممارسات في ذات السياق من ضرورة تحقيق العدالة والحرية والكرامة الإنسانية والمساواة .
هذه العملية الأخطر إن لم تكن معدومة في سلوك مؤسساتنا التشريعية فإنه عادة ما يحصل أن ينحرف التشريع عن تحقيق هذه الإشكاليات وينحو باتجاه البحث عن حلول وتبريرات لظواهر مجتمعية سلبية وغير حساسة لحقوق الإنسان : مثال ذلك أن يتم القول بأن قانون منع الجرائم يحمي ويعزز حقوق الإنسان، إن الضرورة التشريعية والعلمية تحتم التداخل والترابط بين النصوص القانونية في أي دولة نظراً لطبيعة التشريعات ذاتها فلا يمكن استكمال بناء النص بمعزل عن محيطة التشريعي، وهنا تكمن الخطوة الأهم في الأخذ بعين الاعتبار الخصائص المشتركة لكل محور معين وهو ما عبر عنه بالحزم التشريعية فلكل فئة من فئات الحقوق والواجبات خصائص مشتركة تمثل الحد الأدنى من الجوامع المشتركة التي تجب مراعاتها في ترابط القوانين – هنا العملية ليست تنظير – وإنما لا يمكن بناء تشريع مستقر يؤدي الغرض منه في مجال الانتخابات دون مراجعة قانون الانتخاب والأحزاب وقانون الهيئة المستقلة للانتخاب والأنظمة والتعليمات الناظمة لتلك العملية أو التي تنظم الحق في المشاركة العامة حيث طبيعة الحق في المشاركة العامة تملي مجموعة من الخصائص لابد من مراعاتها عند صياغة أي تشريع يتطرق لتقنين هذا الحق أو محور منه.
وهنا تظهر جلياً الإشكاليات التي تعاني منها التشريعات الوطنية إذ هذه العملية بالإضافة الى أنها صياغة إلا أنها تشكل أحد أشكال تقييم التشريعات ومدى حساسيتها للحقوق، إذ بإسقاط هذه المبادئ على تلك التشريعات نستطيع تبيان الخلل والزلل والكشف عن عورات التشريعات بمنهج مجرد وبناء على افتراضات حقوقية بل ونستطيع معرفة الافتراض الذي بني عليه النص هل افتراض سياسي أم أمني أم اجتماعي أم غير ذلك.
وبعلمية بناء تراكمي مرن نبدأ بمقارنة المبادئ التي تم جمعها من حالة النقاش والحوار العام بالمبادئ المستقرة عالمياً وبالنظريات القانونية والتي تمثل الضالة المنشودة للقاعدة القانونية وهي تحقيق العدل إما التدريجي أو التبادلي أو التوزيعي ، وتبدأ عملية الولادة الطبيعية للقاعدة القانونية إما بالنهي عن فعل إذا كان يعارض ويخالف المبادئ العامة للحقوق والحريات بصياغة قاعدة قانونية تنهى وتؤثم مثل هذه السلوكيات، أو تأمر بالقيام بفعل إذا كان يوافق ويتطابق مع تلك المبادئ الحقوقية وتسعى القاعدة القانونية لترسيخها وتطوير الضوابط الموضوعية لممارستها. العملية المقلوبة لدينا تكمن أيضا بأن ولادة القاعدة القانونية هي قيصرية إذ تتم المقارنة بهواجس سياسية أو أمنية أو اجتماعية مما تخرج القاعدة القانونية هنا مقلوبة رأساً على عقب وتوتر المزاج العام إن لم تكن جزء من تكريس أفعال وممارسات قائمة على أسس ومعايير مزدوجة ومختلطة ووفقاً لطبيعة الحق موضوع القانون إذا كان سياسي يؤدي إلى تعميق الطائفية والإقليمية والعنصرية والتقسيم الجغرافي، وإن كان اقتصادي يؤدي إلى عدم مراعاة الطبقات المجتمعية وعدم التوزيع العادل لمكتسبات التنمية والإنفاق الجاري على حساب الرأسمالي وزيادة الفقر والبطالة.
تمثل تلك الخطوات الثلاث الأولى الجوهرية والأصيلة من بناء التشريعات والتي بمعزل عنها ومراعاتها لا يمكن وصف أي قانون بأنه عادل ويحقق مبتغاة بل لا يعدوا عن كونه تراكيب لغوية تنم عن فهم شخصي وضيق يتمتع بحماية قانونية وسلطة الإلزام من جهة الصدور فقط ، يعقب ذلك، عمليات ومقاربات فكرية ومراحل تراكمية لا تنجح مرحلة إلا بإتباع صحيح للخطوة التي تسبقها.
هذه المراحل يجب أن تكون واضحة ومستقرة ومعلن عنها حتى تتسم التشريعات بالنضوج ويشكل السلوك المجتمعي الحالة الموضوعية لحالة التطور التشريعي بعيداً عن الهفوات والزلات التي رافقت التشريعات الوطنية من إحالة على ترجمة واستيراد نظريات غير قابلة للتطبيق والخروج على قواعد قانونية مستقرة بل وعدم مراعاة خصائص القاعدة القانونية بحدٍ أدنى ، فضلاً عن عدم مراعاة التشريعات لنهج الحقوق والواجبات الذي يشكل برمته الموجه العام المدني والسياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي للمجتمعات، وأدى عدم إتباعه إلى زيادة الهوات بين الطبقات المجتمعية وخلق أدوار هجينة للسلطات العامة وكافة مؤسسات الدولة وزيادة العنف المجتمعي وإشاعة الجرائم غير القصدية والمنظمة منها وفقد الأجيال موجهات عملها الفكري وتدخل جميع تلك العوامل في التأثير التدريجي في نظرية المواطنة والهوية بشكل عام .