غير صالح للشرب
أجلس منفعلاً لسماعي بخبر انقطاع المياه عن بيتي لليوم الخامس على التوالي والخامس والعشرين على التوازي. قررت بلا تردد أن أُنفق ما في الجيب حتى يأتي ما في الغيب، وبكل نفسٍ ذائقةِ الظمأ اتصلت بسائق أحد الصهاريج أنشُد منه الماء، فوَعدني وعداً عربياً جازماً وقاطعاً بأن يَحضُر ليُفرِغ ما في جيبي من النقود مقابل أن يُفرِغ ما في صهريجه من الماء خلال ساعةٍ زمنيةٍ لا ضوئية. مَرّت سبعٌ وخمسون دقيقة من الانتظار ولم يحضُر وعلى رأس الدقيقة التاسعة والثمانين وأنا أستعد لاستقباله على شرفة البيت وإذ بجسمٍ قادمٍ من أسفل الشارع يشبه شكل الصهريج وكلما اقترب إليّ اتضحت لي مادة الكلوروفيل الأخضر المشعّة من الصهريج، وبعد أن اقتربَ أكثر فأكثر وإذ بي ألمح اللون الأحمر على لوحة الأرقام الخاصة به، فتبادر إلى ذهني تساؤلاتٌ عدّة: هل من المعقول أن هذا الصهريج يستوردُ المياه من الإمارات؟! واصلت التدقيق في لوحة الارقام باحثاً عن أحرفٍ ثلاثة مستقلّة (م ا ء) علّه يكونُ صهريجاً سعودياً، لكنني وبكل تأكيدٍ ولمعان قرأت (الأردن) على اللوحة.
عندها أدركت أن الاحمرار في لوحة الرقم هو احمرارٌ حكومي عائدٌ لأمانة عمّان، هنا أصبحت في سعادةٍ ما بعدها سعادة، وتعجّبت كيف تعرف الأمانة بحاجتي للماء دون ما طلبٍ وإلحاح! هل من المعقول أن الأمانة تتنصت على هواتف المنازل؟ هل تشابَكَ خط هاتفي مع خط هاتف أمين عمّان؟! هل أخطأ الصهريج العنوان؟! هل أصبحت مهماً لأنني كاتب مغمور حتى تهتم السلطات بي إلى هذا الحدّ؟! يا ترى لو أنني قمت بالاتصال بأحد الفنادق الكبرى وطلبت منهم أن يرسلوا لي إفطاراً "ديليفري" إلى البيت هل سيدق بابي قبل الأذان بعشرة دقائق حافلةٌ مهيبة من وزارة الصناعة والتجارة تحمل لي إفطاراً "فايف ستارز"؟! هل ستفاجئني وزارة العمل أو ديوان الخدمة المدنية بكتاب تعيين لصديق لي اتصلت بأحد مدراء الشركات "أتوسط" له وأتوسل إليه لتعيينه في وظيفةٍ تليق بمؤهلاته وخبراته ونظافة يديه حتى لا يضطر للسفر والعمل خارج الأردن ويترك والديه في عوزةٍ من مُعيل وفي عُزلةٍ من مُؤنس؟ّ وهل إذا "توشوشت" أنا وصديق لي عن مصير بطل قضية فساد تشغل بال الناس سأتفاجئ بدخول رأس يفصل بين رأسي ورأسه ليقول لي: عذراً سيدي، آسف للمقاطعة، أرجو منك ومن صديقك النظر إلى الخلف ستجدون أمامكم قفص متحرك بداخله (فلان بن علان) ولك ما تمنيت!!
"شو بدكو في طولة السيرة" صهريج الماء العائد لأمانة عمان جاء ليسقي الأشجار الجافة في قلب الشارع العام فحسب، وقد كُتِب عليه (ماء غير صالح للشرح... عفواً للشرب).
د. قيس جمال الخلفات
qkhalafat@yahoo.com