"محظوظ" وشيخ الخياطين
روى لي صديقي قصة "محظوظ" مع "البدلة" الرسمية التي كان يرتديها وهو يترأس اجتماعات العشيرة ويدير شؤونها، حيث ذكر لي مراراً شكواهم ومطالبتهم له باستبدال هذه "البدلة" مبينين له أنها مهترئة وتنبعث منها رائحة كريهة، وذكر لي أنه في ليلة ربيعية صاخبة حلُمَ بوجهٍ طليقٍ سمحٍ يقول له: عليكَ بشيخ الخياطين؛ فهو إذا حدّث صدق، وإذا وعد أوفى، وإذا اؤتمن صان الأمانة، وهو الأقدر على مساعدتك في تلطيف الأجواء برائحة زكية مع العشيرة.
في اليوم التالي أسرع "محظوظ" إلى سوق الخياطين يسأل عن شيخه، وإذا بأحد الخياطين يجيبه: أتسأل عن الشيخ المعزول؟ فقال "محظوظ" متعجباً: معزول! ومن عزله وكيف ومتى؟! فقال له الخياط: دعكَ من هذا الآن واذهب وقف بباب السوق علّك تصادفه زائراً أو متبضعاً لتنشد غرضك منه.
بعد ساعتين من انتظار "محظوظ" وإذ ببهاء شيخ الخياطين يكتنف "محظوظاً" ويتجه إليه، فبادره "محظوظ" بالحديث: كيف حالك يا شيخنا.. رد الشيخ: أهلاً بك يا بني. فقال محظوظ: قصدتك يا شيخنا أستطلع رأيك في حال "بدلتي" التي تشتكي منها العشيرة، دعني أخرجها من حقيبتي لأريك إياها. فردّ الشيخ: لا داعي يا بني أعرف "بدلتك" حق المعرفة. فقال “محظوظ”: حسناً يا شيخنا وما بال "بدلتي"؟ ردّ الشيخ: "بدلتك" ذات بطانة مهترئة، وجوهر خيطها ذو رائحة كريهة تشتد كرهاً كلما احتك جسمك بها، وهذا ما يؤذي عشيرتك الأقربين. فقال “محظوظ”: وما الحل يا شيخنا؟ أجاب الشيخ: الحل بسيط.. اعقل وتوكّل واستبدلها.
سأل "محظوظ" الشيخ: من أين أحصل على البطانة البديلة؟ رد الشيخ: كل من في السوق يعرفها، وكل من في السوق سيدلّك عليها، لكن احذر أن تسأل أشباه الخياطين وزمرتهم، وإياك إياك الأدعياء والهواة. ردّ "محظوظ": حسناً يا شيخ، وما البطانة التي أطلب؟ هل من مواصفات تسديها لي فأسأل عنها؟ أجاب الشيخ: بالطبع وبكل سرور... نحن محظوظون بك يا ولدي وأنت محظوظٌ بنا، وما خاب من سمّاك "بمحظوظ" بن "مذكور" بن "مهيوب"؛ أما البطانة فهي البطانة الملساء الحلساء التي يريحك ملبسها ويسرّك ملمسها، لا اعوجاج في خيطها، ولا تدرّج في متانتها، ولا هون في تشابكها، ولا فراغ في استنسالها، منتشية، تدفئك في شتائها، وتبرّد عليك في حرّها، مكفولةٌ ما كفلت استقامة خيطها، خامتها من سوقنا نعرفها وتعرفنا، ولا يضاهي جودتها بطانة "الجوخ" الإنجليزي، ولا بطانة "الترجال" الأمريكي، ولا حتى بطانة "الشامواه" الفرنسي؛ فحريرها من بطون دود قزّها الذي شرب من ماءك وأكل من أرضك، غير قابلة للرثي، وعصيّةٌ على مقصات خياطي الظلام، وتجار الخيوط الرخيصة. وتذكّر أن لونها من لون "بدلتك" لا يتغير ولا "يكلح"، ولا تتأثر بأي مسحوق للغسيل حتى وإن خضعت لجميع عمليات "غسيل الألوان".
بنيّ المحظوظ.. هذه البطانة هي ذات البطانة التي وصفتُها لأجدادك ومنها حاكوا عباءاتهم بذات الخيط واللون ومن نفائس ما حمَلتهُ طريق الحرير إلى بلاد العُرب. انتصر يا ولدي لضعفاءِ وعلماءِ وحكماءِ وشهداءِ وأدباءِ عشيرتك واستبدلها ولا تُبقِ على عثـّها وأعِد إليها ألَـقَها، واهنئ بها ومعنا في قضاء الفصول الأربعة.
نسيت أن أسألك يا شيخي.. ماذا تفعل في السوق بعد أن عُزِلْت؟ رد الشيخ: "مالي شغل بالسوق مريت أشوفك...!".
الدكتور قيس جمال الخلفات
qkhalafat@yahoo.com