دب نيوز
أفاق سكان المدينة على بيانٍ صادرٍ عن عُمدتها يُبلغهم فيه عن هروب دُبّ من قفصه في حديقة الحيوانات، محذّراً السكّان من مغبّة الخروج من منازلهم لممارسة أي شكلٍ من أشكال التجمّع، والتجمهر، والتظاهر، والاجتماع، والتجالس، والتدارس، والتحاور في أي شأنٍ من شؤون المدينة خوفاً من تعرضهم لهجمات من الدُبّ الهارب والذي وصفه العمدة في بيانه بـ "الدُبّ الهائج".
وما أن أنهى العُمدة بيانه الذي بثّه "تلفاز المدينة وإذاعتها الأولى" حتى دَبّ الذعر بين الأهالي وأخذوا يتراكضون بسرعةٍ فائقة ينشدون منازلهم اختباءً من هجمات الدبّ الوشيكة تاركين وراءهم الشوارع والمحالّ والمرافق والساحات، وأصيبت المدينة بالشلل التام، وأصبح الناس في "حيصٍ وبيصٍ" من أمرهم؛ فهم يستهجنون حادثة الهروب هذه أمام العهود التي كان قد قطعها العمدة على نفسه مراراً وتكراراً موحياً بقدرته على إحكام القبضة على مكامن الخطر في المدينة وأقفاص الحيوانات المفترسة في حديقتها.
السكون يخيّم على المدينة، حالة من حظر التجول تنتاب الشوارع، ظلال المعتصمين لا زالت تسطّر ساحة ميدانها الأوسط... حتى القطط لم تعد من مرتادي "حاويات" القمامة، وقد استبدلت العصافير والحمام محطات التقاط الحبوب من على الأرض لتصبح على أسطح البنايات. المحالّ مغلقة، الأزقّة خاويةٌ على عروشها من المتسكّعين والسكارى وأرباب السوابق، لا باعة متجولين أو مقيمين، المدارس مؤصدةٌ على علومها وآدابها وتربيتها، الصلوات تقام سراً لا جهراً... صمتٌ مطبق يحجب الحركة والصوت، ويكمم الأفواه عن البوح بمكنون القلوب والعقول وأنين القهر وآهات الحرية المسلوبة... وغدت المدينة قفصاً كبيراً يحتبسُ فيه أهلها كالقفص الذي كان يأوي سبب هلعهم وسبب إغراقهم في السكون والسكوت.
مجموعة من حرس المدينة مدججة بالسلاح تجوب الأحياء والمرافق والمزارع بحثاً عن الذي خرج ولم يعُد.. الفقيد الهائج.. الغائب الحائر.. لم يعد بمقدور أهل المدينة الاتصال بعمدتهم إلا من خلال شاشة التلفاز أو سماعة المذياع يترقبون بيانه المنشود بالقبض على المفقود والذي لم يصدر بعد.
ضاق صدرُ نشطاء المدينة من العيش في حالة الاحتباس هذه.. يريدون العودة إلى "سوق عكاظهم" يتباحثون الشؤون العامة لمدينتهم، ويصدرون الاقتراحات بشأنها.. يريدون أن يكملوا مسيرة بحثهم عن أرباب المشاكل والأفعال الغريبة عنهم والمرفوضة منهم.. يشعرون بحشرجة في أصواتهم التي احتُبست ذبذباتها في حناجرهم منذ أن خرج الدُبّ إلى حيز حياتهم فجعلهم مقيّدي الأيدي مكممي الأفواه حبيسي جدران العزل والتردد.. لم تعُد البيوت بالحجم الذي يتسع لما يتكلمون وما يريدون فقد ضاقت عليهم بما رحُبت.. فكيف يكون للصوت مدىً إن لم يعقبه الصدى؟! فلا تزول الحشرجة من الأصوات ما لم تجتمع على أوتار رجلٍ واحد.. لكن من أين لهم بساحةٍ تجمع أصواتهم مرة أخرى بعد أن بعثرها ظل الدبّ الهارب على بوابة المدينة التي تهبّ منها الريح؟!
قداسة الحرية هي أمّ الاختراع والذكاء.. قرروا أن يكتبوا ما يريدون قوله على كل رقعةٍ تسمح للقلم أن يسيل عليها ليعلقوها على نوافذ بيوتهم وشرفاتها المطلة لتكون ظاهرةً للقاصي والداني من أهل المدينة..
جالَ العُمدة أنحاء المدينة متفحصاً أحوالها، وما أن شاهدَ اللافتات واللوحات المعلًقة على النوافذ والشرفات وأدرك ما عليها أصيبَ بخيبة أملٍ عارمة، وحدّث نفسه: ألم يوقفهم شبح الدبّ عن ذلك؟! إذا لم يقدر الدبّ على ذلك فمن يقدر إذن؟! أما من كائنٍ يخيفهم فيردّهم عمّا يصنعون؟! حسناً سأُخرٍجُ الدبّ من مخبئه وأعيده إلى حيث كان، وأعلنُ لهم عن إمساكنا به متسللاً بين أحلامهم... وسأعود إليهم قريباً ببيانٍ آخر أجعلُ الأسد بين ظهرانيهم علّهم يهتدون!
د. قيس جمال الخلفات
qkhalafat@yahoo.com