الخراب المسكوت عنه
جميل النمري
جو 24 : ستقدم الحكومة قوانين البلديات واللامركزية والانتخابات، وهي الرزمة التشريعية الكبرى لتحقيق الإصلاح السياسي والإداري. ومن بين أهداف أخرى، فإنه يفترض بالنظام الانتخابي الجديد، إلى جانب اللامركزية، أن يضعا أخيرا وراء ظهرنا نيابة الخدمات (نائب الواسطة)؛ وذلك لأن توسيع الدوائر والخروج من الصوت الواحد سيوسع القاعدة الانتخابية ويجعلها أكثر تنويعا، ويقلل الاعتماد الفردي على نائب بعينه، هذا إلى جانب وجود نواب مجالس المحافظات الذين سيتولون المسؤولية عن الخدمات والقضايا المحلية والشخصية.
لكن صدقوني بأن هذا لن يكون كافيا لإنهاء نيابة الواسطة والمحسوبية والخدمات. فالثقافة الاجتماعية "الفاسدة" تجذرت كثيرا، بحيث لا يبدو ممكنا تحويل الناس عنها بالوعظ. إذ حتى في مجالات تطبق فيها الأنظمة والتعليمات بصرامة، يتم البحث عن أي وسيلة للتوسط، والحجة دائما أن الالتزام بالأنظمة والتعليمات كاذب وشكلي؛ وأنه "إن تركتُ أنا الأمر، فسيفعلها غيري ويأخذ مكاني". وخذ مثلا الآن تحويل وظائف الفئة الثالثة إلى ديوان الخدمة المدنية؛ إذ لم تقلّ أبدا ضغوط الواسطة، ولا أحد يقتنع أن الأمور تمشي باستقامة وحيادية، أو أنه يريد تحوطا تسخير واسطة ممكنة، عسى أن يفوز بالوظيفة. وعلى كل حال، فإن نقل السلطات والصلاحيات إلى مجالس المحافظات لن يبدأ فورا، أو سيبدأ بحذر وبالتدرج. وقد يتعثر في البداية، ويأخذ سنوات طويلة ليتقدم. وفي الأثناء، ستبقى قناعة الناس أن النائب والوزير، أو المسؤول الأول في أي مؤسسة، هم مفتاح القرار. ثم إننا في النهاية نريد القضاء على الواسطة من حيث المبدأ، وليس نقلها من مستوى لآخر.
الواسطة تزيد وتترسخ، بدل أن تتقلص وتتراجع. وهي تُفسد جهود الإصلاح، وتُفسد علاقة الجمهور مع النواب وعلاقة النواب مع الحكومة. ويمكن أن تسمع الآن نواباً يجأرون بالشكوى من أن الحكومة ضيقت عليهم، وسدت كل المنافذ والسبل، وأهلكتهم أمام قواعدهم الانتخابية؛ أي بمعنى أن المطلوب هو فتح الباب على مصراعيه للتوظيف والنقل، وكل مصلحة أخرى بوساطة النواب. وقد يضعف الوزراء أمام هذه الضغوط؛ إن لم يكن هذا الوزير فزميله، أو الآخر الذي يأتي محله.
لدي قناعة ترسخت على مدار الوقت، بأننا لن نتمكن من مواجهة هذه الظاهرة الفاسدة التي يشتهر بها الآن المجتمع الأردني، إلا بتشريع واضح يؤدي إلى تجريم الواسطة؛ تشريع يفصّل الأفعال التي تدخل في نطاقها، والعقوبات المترتبة عليها. وقد ينبري البعض فورا بالقول إن الواسطة مجرمة أصلا في قانون مكافحة الفساد، بالنص الذي يقول إن كل واسطة تحق باطلا أو تبطل حقا هي فساد. لكن هذا نص فضفاض لا قيمة له، بدليل أنه لم يؤثر إطلاقا على أرض الواقع. واستمرار التذرع به، أو الادعاء أن هذه ثقافة سائدة لا يوضع لها حد بقانون، بل تحتاج إلى عملية تثقيف طويلة للمجتمع، هو في الواقع تهرب من مواجهة الأمر، وقبول ضمني باستمراره. ولن يحمي النائب أو المسؤول من ضغوط الواسطة إلا قانون يجرم، بصورة محددة، أفعالا محددة وأشخاص محددين. هذا ما سيحمي النائب والمسؤول، ويردع طالب الواسطة، ويجبر الدولة على أن تضع التعليمات الضرورية في كل مجال، حتى لا يبقى القرار مزاجيا. ويفترض أن تنص التعليمات على تلبية كل طلب إذا كانت فيه مصلحة أو حاجة أو تسهيل لا يتعارض مع النظام ولا يضر بالمصلحة العامة، ويأتي دور النائب لاحقا ليدقق على القرار ويضع الحق في نصابه.
نحن أمام خراب مسكوت. وقد آن الأوان لمواجهته مباشرة، وبالطريقة الصحيحة؛ أي بقانون تجريم الواسطة الذي يترافق مع ويكمل رزمة القوانين آنفة الذكر للإصلاح.
الغد
لكن صدقوني بأن هذا لن يكون كافيا لإنهاء نيابة الواسطة والمحسوبية والخدمات. فالثقافة الاجتماعية "الفاسدة" تجذرت كثيرا، بحيث لا يبدو ممكنا تحويل الناس عنها بالوعظ. إذ حتى في مجالات تطبق فيها الأنظمة والتعليمات بصرامة، يتم البحث عن أي وسيلة للتوسط، والحجة دائما أن الالتزام بالأنظمة والتعليمات كاذب وشكلي؛ وأنه "إن تركتُ أنا الأمر، فسيفعلها غيري ويأخذ مكاني". وخذ مثلا الآن تحويل وظائف الفئة الثالثة إلى ديوان الخدمة المدنية؛ إذ لم تقلّ أبدا ضغوط الواسطة، ولا أحد يقتنع أن الأمور تمشي باستقامة وحيادية، أو أنه يريد تحوطا تسخير واسطة ممكنة، عسى أن يفوز بالوظيفة. وعلى كل حال، فإن نقل السلطات والصلاحيات إلى مجالس المحافظات لن يبدأ فورا، أو سيبدأ بحذر وبالتدرج. وقد يتعثر في البداية، ويأخذ سنوات طويلة ليتقدم. وفي الأثناء، ستبقى قناعة الناس أن النائب والوزير، أو المسؤول الأول في أي مؤسسة، هم مفتاح القرار. ثم إننا في النهاية نريد القضاء على الواسطة من حيث المبدأ، وليس نقلها من مستوى لآخر.
الواسطة تزيد وتترسخ، بدل أن تتقلص وتتراجع. وهي تُفسد جهود الإصلاح، وتُفسد علاقة الجمهور مع النواب وعلاقة النواب مع الحكومة. ويمكن أن تسمع الآن نواباً يجأرون بالشكوى من أن الحكومة ضيقت عليهم، وسدت كل المنافذ والسبل، وأهلكتهم أمام قواعدهم الانتخابية؛ أي بمعنى أن المطلوب هو فتح الباب على مصراعيه للتوظيف والنقل، وكل مصلحة أخرى بوساطة النواب. وقد يضعف الوزراء أمام هذه الضغوط؛ إن لم يكن هذا الوزير فزميله، أو الآخر الذي يأتي محله.
لدي قناعة ترسخت على مدار الوقت، بأننا لن نتمكن من مواجهة هذه الظاهرة الفاسدة التي يشتهر بها الآن المجتمع الأردني، إلا بتشريع واضح يؤدي إلى تجريم الواسطة؛ تشريع يفصّل الأفعال التي تدخل في نطاقها، والعقوبات المترتبة عليها. وقد ينبري البعض فورا بالقول إن الواسطة مجرمة أصلا في قانون مكافحة الفساد، بالنص الذي يقول إن كل واسطة تحق باطلا أو تبطل حقا هي فساد. لكن هذا نص فضفاض لا قيمة له، بدليل أنه لم يؤثر إطلاقا على أرض الواقع. واستمرار التذرع به، أو الادعاء أن هذه ثقافة سائدة لا يوضع لها حد بقانون، بل تحتاج إلى عملية تثقيف طويلة للمجتمع، هو في الواقع تهرب من مواجهة الأمر، وقبول ضمني باستمراره. ولن يحمي النائب أو المسؤول من ضغوط الواسطة إلا قانون يجرم، بصورة محددة، أفعالا محددة وأشخاص محددين. هذا ما سيحمي النائب والمسؤول، ويردع طالب الواسطة، ويجبر الدولة على أن تضع التعليمات الضرورية في كل مجال، حتى لا يبقى القرار مزاجيا. ويفترض أن تنص التعليمات على تلبية كل طلب إذا كانت فيه مصلحة أو حاجة أو تسهيل لا يتعارض مع النظام ولا يضر بالمصلحة العامة، ويأتي دور النائب لاحقا ليدقق على القرار ويضع الحق في نصابه.
نحن أمام خراب مسكوت. وقد آن الأوان لمواجهته مباشرة، وبالطريقة الصحيحة؛ أي بقانون تجريم الواسطة الذي يترافق مع ويكمل رزمة القوانين آنفة الذكر للإصلاح.
الغد