طبائع الاستبداد
أكد الدكتور عمر الرزاز، صراحة، ما كان معروفا ضمنا، بأن والده المفكر القومي الكبير منيف الرزاز، مات مقتولا بتبديل دواء الضغط الذي كان يتناوله وهو قيد الإقامة الجبرية. قال ذلك في سياق ندوة في نادي الحصن الثقافي الرياضي لتقديم كتاب د. فدوى نصير حول قضية الحرية في فكر منيف، والتي تناولها في مؤلفه المعروف "الحرية ومشكلاتها في البلدان المتخلفة".
وشرح د. عمر ما حدث في حينه. إذ جاء من وضع د. منيف الرزاز أمام خيارين: إما 1 - تأييد الرواية الرسمية حول مشروع الانقلاب على قيادة صدام حسين -والتي اتهم فيها 21 عضوا من قيادات الحزب تمت تصفيتهم جسديا على هامش الاجتماع الذي أعلن فيه عن المؤامرة- والخروج على التلفزيون ليقول ذلك ويدين المؤامرة المزعومة؛ أو 2 - اعتباره جزءا من المؤامرة! رفض الرزاز ذلك، وقال إنه لا يعرف عن مؤامرة ولا يستطيع أن يقول شيئا عنها.
وكان قد تم قبل ذلك تنحية د. منيف الرزاز عن منصب الأمين العام المساعد في القيادة القومية لحزب البعث العربي الاشتراكي ووضعه قيد الإقامة الجبرية في بغداد، بسبب خلافه مع القيادة القطرية العراقية حول موضوع الوحدة مع سورية الذي طرح بقوة في القطرين العام 1979. وكان رأي الرزاز تجنب الحرب مع إيران والتوجه للوحدة مع سورية مهما كانت التنازلات. لكن الوضع في العراق كان يتجه لتكريس سلطة صدام حسين المطلقة، والتي لا تحتمل الشراكة مع أحد في الداخل، فما بالك بتخفيضها إلى شراكة مؤسسية واسعة مع سلطة أخرى قائمة ومكافئة لها.
بعد الندوة، وجدت نفسي أرجع إلى أبدع توصيف للاستبداد وشخصية الطاغية، وهو ما جاء في كتاب "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد"، لأحد أبرز رموز النهضة العربية والتنوير العربي عبدالرحمن الكواكبي، والذي يعتقد بالمناسبة أنه مات مقتولا في القاهرة بدس السم له في فنجان قهوة العام 1903.
إن سيرة الاستبداد السياسي واحدة في كل مكان. وأول ضحايا الاستبداد هم رفاق الدرب، في أول لحظة يختلفون فيها مع الزعيم. ومن كانوا يرون أنفسهم قادة سياسيين ومناضلين أصحاب قضية كبرى، عليهم التنازل عن كرامتهم وكبريائهم وتنكيس رؤوسهم، والتحول إلى غلمان في طابور حملة المباخر. هذا مع حق، بل وواجب كل منهم أن يكون مستبدا طاغية فرعيا على من هم تحته.
ما حصل في سورية والعراق كان قد حدث مع أكبر ثورة في العصر الحديث (ثورة أكتوبر 1917) وأشهر دكتاتور في النصف الأول من القرن العشرين؛ جوزيف ستالين، الذي تفرد بالسلطة وأرسل كبار قادة الحزب والثورة إلى الإعدام بتهمة الخيانة العظمى في التصفيات الكبرى العام 1936. ولم يكن ستالين هو أبرز منظري ومفكري البلشفية، وإنما القائد الميداني الأقوى الذي أمسك بمفاصل التنظيم، وأصبح أمينا عاما للحزب من دون معارضة. وكان لينين وهو على فراش الموت تنبأ بالخطر، فوجه وصية إلى المؤتمر الثالث عشر للحزب يطلب فيها استبدال ستالين بأي رفيق آخر أقل فظاظة وأكثر لينا، لكن الرسالة لم تصل.
مأساة منيف الرزاز أنه كان قائدا مناضلا وكاتبا مفكرا، في آن معا. وهذان البعدان وضعاه في مواقف نقيضة. فقد قاد النضال القومي "البعث"، والرزاز في مقدمته، إلى سلطة عسكريتارية واستبدادية، فوجد نفسه كمفكر حر في تناقض معها. ثم إن المناضل الملتزم فيه لم يتعظ من أول تجربة (سورية)، فلبى النداء ولو بعد تردد، ليذهب إلى بغداد أمينا عاما مساعدا للقيادة القومية، وليواجه المصير المأساوي المعروف.