أمّ المراثي: في عيدها ووداعها
جميل النمري
جو 24 : كانت على فراش التعب، وفكرت ان أكتب عنھا بمناسبة عید الأم. لن أنتظر رحیلھا لأكتب عنھا
راثیا، لكنھا لم تنتظر؛ فارقتنا في عید الأم. بكرت في الرحیل عن 92 عاما.. كنت أحب لو
ّ بقیت أكثر قلیلا. كانت تخبو وأنا أطمع أن تبقى أكثر قلیلا.. وفي داخلي كنت اتعجب انھا عمرت
ّ كل ھذا الوقت مع حیاة تھد الحیل. ھي أصبحت أما في السابعة عشرة ورزقت بالذكور تباعا
وعندما جاءت الابنة الوحیدة ولدت معتلَة تحتاج لرعایة استثنائیة منحتھا لھا بكل وفاء دون ان
تقصر مع كتیبة الابناء الذكور. من العجب ان كل واحد كان یشعر انھ الابن المدلل والاھم، نبع
الحب والحنان اللامتناھي في قلب الأم یكفي لأي عدد من الابناء مثل قسمة اللامتناھي على اي
عدد.
بعد ان نكبر فقط سنتطلع الى الوراء ونفكر بما قامت بھ ھذه الأم العظیمة مع ھذا العدد من
الابناء والقیام باقتدار بكل الأعمال في أزمنة لم تكن تتوفر فیھا اي تسھیلات، وأب لدیھ
مسؤولیات اجتماعیة بصفتھ من وجھاء القوم كان یجب تبییض وجھھ في البیت المفتوح دائما
للمعارف والأقارب والضیوف الطارئین وللمناسبات الكبیرة والكثیرة حین تنصب القدور
ویمرس الجمید لمناسف الأفراح والأتراح ویمد الفراش للضیوف خصوصا الأقارب القادمین من
بعید وسیبیتون عندنا ویمكن أن أضیف ھنا فزعة الجارات أو القریبات لھذه المناسبات.
وبعد كل الاشغال الشاقة كانت تظھر سیدة انیقة مرتبة شدیدة الاحترام، وھي بطبیعتھا بھیة
الطلعة تلوح علیھا وتمیزھا سمات نبالة وسمو، رزینة وطیبة وحنونة دون تكلف. وأستطیع ان
اتذكر حین یقع شجار الجارات كانت تنسحب ولا یرتفع صوتھا ولا یخرج من فمھا لفظ
رديءص أبدا، وھي بثت في البیت روح الأدب والاحترام، والغریب ایضا حب الثقافة والعلم
وھي غیر المتعلمة، لكن أستطیع ان اتذكر ثقافتھا المكتسبة في ردودھا وتعلیقاتھا وأحكامھا
الدقیقة كالسھم وبعضھا شكل لحظة فارقة في وعیي واتجاھي المعرفي نحو العقلانیة والمنطق
ورفض التقلید والانقیاد والأحكام المسبقة والتحیز الأعمى.
عانت من تشتت معظم الابناء في الاغتراب للدراسة حین كانت الرسائل الشحیحة او الھاتف كل
بضعة اشھر ھو وسیلة الاتصال والاطمئنان. لا اذكر انھا اعترضت یوما على انشغالي بالسیاسة
لكنھا لم تكن تعرف الكثیر عن خطر الحزبیة في الظروف العرفیة حتى داھمھا خبر اعتقالي
وحین زارتني لم توجھ اي لوم لكن أحسست بقلبھا المعصور في السؤال اذا ما كنت تعرضت
للإیذاء. لكن الأقسى سیأتي بعد قلیل حین اغتالت رصاصات جبانة فلذة كبدھا میشیل. میشیل
الذي عذبھا كثیرا في حیاتھ القصیرة وكلھا مغامرة متصلة داخل الاردن وخارجھ. وسمحوا لي
بالخروج من السجن لحضور الجنازة ولم اعرف بأي قلب سأواجھ الأم المكلومة.. امسكت بیدي
ّ وقالت في لوعتھا تواسیني متحدیة أعداء لا تعرف من ھم.. انھا عصا واحدة انكسرت من حزمة
وعندما خرجوا بالجثمان المحاط بالنساء والنحیب والسواد اطلقت زغرودة انشق لھا حجاب
الكون.
ّ كانت تلك ھي الأم. ام ریاض جبلت بمشقات عظیمة، وكم من السعادة والحب والنبل والحزن
یفوق الاحتمال ولطالما تساءلت ماذا یخزن ھذا القلب. ھي كانت تعاني مع اشیاء اخرى من
ّ تضخم في عضلة القلب. فأي تضخم سیتسع لكل ما مر ّ بھا، القلب الذي ظل یحب ویعطي حتى
الثانیة الأخیرة وبالقدر القلیل المتبقي من نبض حتى سكونھ النھائي أول من أمس.الغد