بين المُعلّم والفيلسوف
ابراهيم العجلوني
جو 24 : كان من شأن «ابن سيد البطليوسي» كما يقول الفتح بن خاقان»: «أن خدم الرياسات، وعَلِم طرق السياسات، ونفق وكَسَدَ، ووقفَ وتوسّد». وهذا الذي لخّصه ابن خاقان من امر البطليوسي في كتابه «قلائد العقيان ومحاسن الأعيان» هو أوجز قول وابلغه في شخصية متميزة اشتغلت باللغة والنحو والفلسفة أيام دول الطوائف في الأندلس، وشهدت سقوط مدن الأندلس واحدة بعد أُخرى، ثم شهد نصر «الزلاّقة» وهو ابن خمس وثلاثين سنة، ثم اضطربت به الأحوال، وتداولته الدواوين وقلقِت رواحله به حتى قال:
فسِرْنا وما نلْوى على متعذّرٍ
إذا وَطَنٌ أقصاك آوتكَ أوطانُ
لكن ما لم يذكره ابن خاقان، او ما اغفله اعتمادا على معرفة الدارسين به؛ هو ان لأبي العلاء المعري اثرا عظيما في ابن السيد وان غربة هذا الأخير في المكان تقابل غربة فيلسوف المعرة في الزمان، مع فارق جوهري: هو ان البطليوسي اشتغل بالسياسة مثل ابن خلدون، وعرف مسالكها وخباياها، ونفقت بضاعته عند بعض الرؤساء، وردّها بعضهم عليه، وان حاله جثمت مرة وطارت أُخرى، بحسب ما كان يلقاه من سخطٍ ورضى ومن قبول ورفض؛ وذلك بعكس ابي العلاء الذي اعتصم بعزلته الحكيمة ولم يغادر منزله في المعرّة – إلا مرة واحدة إلى بغداد – إلى أن توفاه الله.
كان ابو العلاء قد جمع معارف كثيرة، ولا سيما في اللغة، وكذلك الامر مع البطليوسي. لكن ابا العلاء كان يتجافى عن سمت «المعلم» ويريد ان لا يشغله عن تأملاته الفلسفية شاغل وعلى الرغم من ازدحام منزله بطلبة العلم ومحبي الأدب، الا انه كان يقول:
وماذا يبتغي الجلساءُ منيّ
ارادوا منطقي واردت صمتي
وقارئ «سقط الزند» و»اللزوميات»، وقد شرحهما ابن السيد البطليوسي كما شرح المعري قصائد المتنبي والبحتري، يجد ألواناً من الرؤى الاستباقية لأبي العلاء، هذه الرؤى التي جعلته في غربة زمانية تمثلت في تباعد ما اشتمل عليه وعيه من انظار عميقة وحدوس بعيدة عما استقر عليه وعي معاصريه.
اما ابن السيد فلم يستطع المضي على خطى استاذه المعري، فهو على الرغم من اشتغاله بالفلسفة الى جانب اشتغاله باللغة والنحو والادب كان صاحب حكمة نظرية لا عملية حياتية كالمعري. وقد جعله ذلك يخدم السياسات ويعرف طرق الرياسات؛ على حين ظل المعري معتصما بكبريائه المعرفي، تهوي اليه افئدة ذوي السياسات والرياسات وتظل بصيرته متعلقة بالآفاق العليا التي تتنوّرها.
كان المعري يعيش فلسفته التي تلتقي فيها المعرفة الشاملة بالحس المستوفز بشقاء الحياة. وكانت اشعاره في سقط الزند واللزوميات مُستلّة من اعصابه مسحوبة من دمه، وقد امكنه، بسبب من ذلك ان يكون شاهدا على عصره وعلى ما يليه من عصور في آنٍ. واذا بدا ان في ما نقوله هنا مبالغة، فان بنا ان نقف قليلا مع معنى طالما انتبه اليه مؤرخو الادب والفلسفة والفنون، وهو ان من يستنبط حقائق زمانه ويحسن قراءتها ويتعمق دلالاتها ويستشعر وقعها على نفسه، ويصدق في التعبير عن كل ذلك؛ يصبح «معاصراً» في كل زمن. او كما يقول ابو العلاء «وتحسد اسحاري عليّ الأصائل». ونحن نفهم من هذا الباب دوافع من ألّف كتاباً بعنوان «شكسبير معاصرنا»، كما نفهم دواعي الاهتمام بالنوابغ الذين تتجدد عطاءاتهم بتتابع العصور.
كان البطليوسي معلما جليلا وقد التمس الحظوة لدى اهل القوة فأفلح وخاب، وكان ابو العلاء فيلسوفا عظيما، ولم يكن ينشد شيئا سوى هدأة الروح وطمأنينة العقل. ومن يقرأ اعماله يجد ان لا روحه هدأت ولا عقله اطمأن، وذلك لفرط ما استشعر من شقاء الحياة.
واذا كان لنا ان نخلص الى نتيجة من هذه المقارنة بين الرجلين فاننا نقول انهما على تماثلهما في الاهتمام باللغة والنحو والشعر، الا انهما يمثلان أُنموذجين مختلفين، يغلب «التعليم» على احدهما وتغلب «الفلسفة» على الآخر.
ونحن اليوم: ماذا نفيد من كل ذلك. ونحن لا نلقي بالاً الى لغة ولا الى ادب ولا الى فلسفة؟
ان اهتمامنا باللغة اليوم ذو طابع احتفالي لا محصّل وراءه.
كما ان اهتمامنا بالفلسفة يكاد يقتصر على التقليد والمضاهأة او على ترداد الاسماء والعنوانات ورؤوس المسائل التي اشتغل بها القدماء والمحدثون. فلا اصالة ذاتية ولا اصالة موضوعية، وما ثمة الا فلسفة المقاهي ودروشات الايديولوجيين!.
على ان استيئاسنا غير وارد، ولا بأي معنى او بأية درجة.
فنحن نؤمن ان أُمتنا بخير، وان مستقبلها سيجود بنوابغ لا يقلون عن البطليوسي والمعري. وان ذلك هو اقرب الامكان في اُمّة العربيّة والقرآن.
فسِرْنا وما نلْوى على متعذّرٍ
إذا وَطَنٌ أقصاك آوتكَ أوطانُ
لكن ما لم يذكره ابن خاقان، او ما اغفله اعتمادا على معرفة الدارسين به؛ هو ان لأبي العلاء المعري اثرا عظيما في ابن السيد وان غربة هذا الأخير في المكان تقابل غربة فيلسوف المعرة في الزمان، مع فارق جوهري: هو ان البطليوسي اشتغل بالسياسة مثل ابن خلدون، وعرف مسالكها وخباياها، ونفقت بضاعته عند بعض الرؤساء، وردّها بعضهم عليه، وان حاله جثمت مرة وطارت أُخرى، بحسب ما كان يلقاه من سخطٍ ورضى ومن قبول ورفض؛ وذلك بعكس ابي العلاء الذي اعتصم بعزلته الحكيمة ولم يغادر منزله في المعرّة – إلا مرة واحدة إلى بغداد – إلى أن توفاه الله.
كان ابو العلاء قد جمع معارف كثيرة، ولا سيما في اللغة، وكذلك الامر مع البطليوسي. لكن ابا العلاء كان يتجافى عن سمت «المعلم» ويريد ان لا يشغله عن تأملاته الفلسفية شاغل وعلى الرغم من ازدحام منزله بطلبة العلم ومحبي الأدب، الا انه كان يقول:
وماذا يبتغي الجلساءُ منيّ
ارادوا منطقي واردت صمتي
وقارئ «سقط الزند» و»اللزوميات»، وقد شرحهما ابن السيد البطليوسي كما شرح المعري قصائد المتنبي والبحتري، يجد ألواناً من الرؤى الاستباقية لأبي العلاء، هذه الرؤى التي جعلته في غربة زمانية تمثلت في تباعد ما اشتمل عليه وعيه من انظار عميقة وحدوس بعيدة عما استقر عليه وعي معاصريه.
اما ابن السيد فلم يستطع المضي على خطى استاذه المعري، فهو على الرغم من اشتغاله بالفلسفة الى جانب اشتغاله باللغة والنحو والادب كان صاحب حكمة نظرية لا عملية حياتية كالمعري. وقد جعله ذلك يخدم السياسات ويعرف طرق الرياسات؛ على حين ظل المعري معتصما بكبريائه المعرفي، تهوي اليه افئدة ذوي السياسات والرياسات وتظل بصيرته متعلقة بالآفاق العليا التي تتنوّرها.
كان المعري يعيش فلسفته التي تلتقي فيها المعرفة الشاملة بالحس المستوفز بشقاء الحياة. وكانت اشعاره في سقط الزند واللزوميات مُستلّة من اعصابه مسحوبة من دمه، وقد امكنه، بسبب من ذلك ان يكون شاهدا على عصره وعلى ما يليه من عصور في آنٍ. واذا بدا ان في ما نقوله هنا مبالغة، فان بنا ان نقف قليلا مع معنى طالما انتبه اليه مؤرخو الادب والفلسفة والفنون، وهو ان من يستنبط حقائق زمانه ويحسن قراءتها ويتعمق دلالاتها ويستشعر وقعها على نفسه، ويصدق في التعبير عن كل ذلك؛ يصبح «معاصراً» في كل زمن. او كما يقول ابو العلاء «وتحسد اسحاري عليّ الأصائل». ونحن نفهم من هذا الباب دوافع من ألّف كتاباً بعنوان «شكسبير معاصرنا»، كما نفهم دواعي الاهتمام بالنوابغ الذين تتجدد عطاءاتهم بتتابع العصور.
كان البطليوسي معلما جليلا وقد التمس الحظوة لدى اهل القوة فأفلح وخاب، وكان ابو العلاء فيلسوفا عظيما، ولم يكن ينشد شيئا سوى هدأة الروح وطمأنينة العقل. ومن يقرأ اعماله يجد ان لا روحه هدأت ولا عقله اطمأن، وذلك لفرط ما استشعر من شقاء الحياة.
واذا كان لنا ان نخلص الى نتيجة من هذه المقارنة بين الرجلين فاننا نقول انهما على تماثلهما في الاهتمام باللغة والنحو والشعر، الا انهما يمثلان أُنموذجين مختلفين، يغلب «التعليم» على احدهما وتغلب «الفلسفة» على الآخر.
ونحن اليوم: ماذا نفيد من كل ذلك. ونحن لا نلقي بالاً الى لغة ولا الى ادب ولا الى فلسفة؟
ان اهتمامنا باللغة اليوم ذو طابع احتفالي لا محصّل وراءه.
كما ان اهتمامنا بالفلسفة يكاد يقتصر على التقليد والمضاهأة او على ترداد الاسماء والعنوانات ورؤوس المسائل التي اشتغل بها القدماء والمحدثون. فلا اصالة ذاتية ولا اصالة موضوعية، وما ثمة الا فلسفة المقاهي ودروشات الايديولوجيين!.
على ان استيئاسنا غير وارد، ولا بأي معنى او بأية درجة.
فنحن نؤمن ان أُمتنا بخير، وان مستقبلها سيجود بنوابغ لا يقلون عن البطليوسي والمعري. وان ذلك هو اقرب الامكان في اُمّة العربيّة والقرآن.