بين تمكين .. وتمكين
ابراهيم العجلوني
جو 24 :
كان مما انتهى اليه صديق لنا، كثير العكوف على كتب التاريخ، ان الحضارات التي مُكنت الجواري والقِيان فيها هي الحضارات التي انهارت لأول تحيّف الاخطار بها، إذ كانت قد بلغت درجة من الفسولة والضعف لم تعد قادرة عندها على الدفاع عن نفسها، ولعلّ ابن خلدون قد ألمح الى ذلك في سياق حديثه عن الترف والتبذل الذي هو مدرجة الى انهيار الدول.
ومن يقرأ تواريخ الأمم – كما يقول صاحبنا – ويرى الى معالم الحضارات التي بناها رجال متميزون ذوو همم وعَزَمات ورؤى، يتعاظمه ان تبنى احدى هذه الحضارات (الرومانية مثلاً) في ثمانية قرون ثم تنهار في اقل من ثمانين سنة.
على ان سبب هذا الانهيار الرئيس – كما يقول صاحبنا ايضاً – هو غَلبة النساء (ولا سيما الجواري والقيان) على ألباب الرجال وتمكنّهن من مصايرهم على نحو او آخر، حتى لقد استفاض في الآداب الاوروبية المقولة المشهورة (فتش عن المرأة) لدى تفسير هزائم عظماء الرجال، وأسباب خذلانهم.
ويذهب صاحبنا وراء ذلك، فيقول ان راقصة تافهة كانت وراء مقتل النبي يحيى (يوحنا المعمدان) عليه سلام الله، وإن امرأة مخادعة اودت بشمشون الجبار، وإن لديه قائمة طويل بأسماء ابطال افذاذ كان تمكّن الجواري والقيان سبباً في ان يكونوا احاديث ومَثُلات وعِبَرا..
ومهما يكن الأمر في هذه الرؤية التي ينطوي عليها صاحبنا، ومهما تكثر الشواهد عنده على عقابيل تمكين بعض النساء في اعناق الرجال, وتوهينهن لاراداتهم. فإن المسألة عندما لا تؤخذ على اطلاقها. وإن مما نستطيعه ان نضع قائمة منيرة في مواجهة قائمة صاحبنا المظلمة, ونبدؤها بسيدتنا مريم العذراء, ثم بسيدتنا خديجة بنت خويلد, ثم بسيدتنا فاطمة بنت الرسول عليه الصلاة والسلام, ثم بنساء يتوالين كعقود الجمان, يظهرننا على انموذجات عالية لنساء طاهرات, عرفن لهن رسالة في الوجود, وكان لهن «تمكين» في العقول والقلوب والارادات الخيرة, لا كتمكين الجواري وفارغات العقول في نقاط ضعف الرجال وغرائزهم.
ولعل كتاب الدكتورة عائشة عبدالرحمن عن نساء بيت النبوة ان يقدم لنا صورة من حضور المرأة (المتمكن الامكن) في حياة امتنا الروحية, ومن صور صناعتها للرجال الرجال اصحاب المواقف المضيئة والعزمات الماضية.
ولقد يكون ذا دلالة في هذا المقام, ان نستذكر ان ابن عساكر صاحب «تاريخ دمشق» اخذ العلم عن الف ومئتي استاذ, منهم مئتا امرأة من وجوه الفقيهات والعالمات المحدّثات, والقارئات والاديبات. الامر الذي نترجمه بلغتنا اليوم فنقول إنه وقبل ثمانمئة عام تقريباً كان لدينا مئتا امرأة يشغلن منصب «استاذ كرسي» وحسبك بذلك (الى جانب تربيتهن لأجيال ممن دفعوا عن هذه الامة جحافل العداة) تمكيناً معتبراً, وحضوراً مباركاً ميموناً.
(الرأي)