على تخوم السبعين
على تخوم «السبعين» كتب العقاد وميخائيل نعيمة وبرتراند راسل وعبدالرحمن بدوي وروجيه غارودي اكثر اعمالهم أهمية، فكان ذلك دليلاً على ان وعي الكاتب ونشاطه الذهني وتوقده الوجداني، كل اولئك لا يعرف الفتور بعد تجاوز هذه السنّ المتقدمة، وان الفِطَرَ الفائقة (وهو مصطلح لابن رشد) والعقول المتميزة لا تعرف «التقاعد»، بل تستأنف حضورها على اشده بمرور الأعوام، وتزداد تألقاً وفاعلية، ويكون لها من التأثير في مجتمعاتها ما لم يكن لها في مرحلتي الشباب والكهوف المبكرة.
ولعلنا لا نجانب الصواب إن قلنا إنّ شباب الفكر قد يبدأ بعد الاربعين او بعد الخمسين، او حتى بعد الستين، وهو قول لا نطلقه اذ لا بد ان يتفاوت تحققه بين كاتب وآخر وان تختلف تجلياته بين كاتب وآخر. ولكننا نرتهنه بشروط لا يضمن توافرها الا الله سبحانه، فهو وحده مُقدّرُ الأعمار، وواهب العقل والدين والحكمة والبصيرة، فإذا ما أمكن لصاحب هذه المواهب ان ترتفع به السن وهو آمن في سربه معافى في بدنه غير مدفوع بشقاء الحياة عن إعمال النظر او القيام بفريضة التفكير، واذا ما كان المجتمع على سويّة أخلاقيّة تَقْدُرُ أصحاب الفكر حقّ قدرهم، فان من منطق الأمور ان يؤول هؤلاء الى ان يكونوا منارات هادية لأجيال الأُمّة وأُنموذجات تُحتذى لها، وأن ينتفع بهم ويُستنار ما أمدّ الله في أعمارهم.
إن الفارق الرئيس الذي لا يُخطئه الدرس المقارن بين المجتمعات المتخلفة معرفيّاً وأخلاقيّاً وبين المجتمعات المتقدمة في أخلاقها ومعارفها، هو ما يكون عليه حال المفكرين وأهل النظر في كل منهما، من تكريم او تبخيس، او من اهتمام او لا مبالاة. اذ عند طرفي هذه المعادلة تمتد مسافة الخُلْفِ بين دولة ودولة، وحضارة وحضارة، ففريق الى الهاوية والفَنَاء، وفريق إلى العَلاَءِ والنّماء. ولا يَظلمُ ربّك أحدا..
إنّ من العِلل الغائيّة لخلق الخَلْقِ – بحسب تفسير ابن عباس لآية «وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون – حيث فسّر «يعبدون» بمعنى «يعرفون»، معرفة الله سبحانه وتعالى، وهي معرفة قوامها النّظرُ والتفكّر في الأنفس والآفاق. ومن ينذرون أعمارهم لمثل هذه المهمّة المقدّسة جديرون بأن يكرّموا وأن تدفع عنهم أسباب الشقاء. لا أن يتركوا ضعفاءَ في مواجهته. وكم في ذلك من دواعي التبصّر لأُولي النُّهى.. لو كنتم تعلمون.
