شمس الجوسات
أدين وغيري من الحراكيين والسياسيين في الأردن للمحطة الفضائية الأردنية "الجوسات" بفضل كبير، إذ أنها فتحت لنا الفضاء رحباً بعد أن اغلقه العقل الامني للنظام السياسي الأردني عقدواً، وبغض النظر عن مواقف المشاهدين منا أو من القناة وادارتها، فقد تمكنت هذه المحطة الفضائية وبامكانياتها المتواضعة للغاية أن تقدم نموجاً فريداً من الحوار الفكري والسياسي، لم يسبق له مثيل بل ومثّل قفزة حضارية في تاريخ الأردن السياسي والاعلامي كانت على رائدها وبالاً شأن كل قفزاته النوعية التي تستحق فعلاً أن نتأملها.
الدكتور رياض الحروب، هذا الرجل الهادئ في طبعه وحديثه وحواره، الثري بحبه للأردن وايمانه الصادق بشعبه العظيم، شخصية استثنائية برأيي، ولأن الرجل افلسته قناعاته وجعلته هدفاً للسلوك السادي المهيمن على دوائر القرار الامني الفاعلة، أجدني مرتاحاً في الحديث عنه وانصافه دون أن ينتابني ادنى شعور بهاجس الاتهام ومحاولات التشويه ضمن معركة الصورة التي تخاض ضدنا، فكم يبدو الوقوف إلى جانبه هذه الايام اشبه بجريمة يفر منها الاعلاميون فرارهم من المجذوب، للأسف فالرجل أول من يحدثك وفي الحلق مرارة عن الاعلام الذي طالما حفي به دونما طائل، وعن الساسة والاحزاب الذين فتح لهم قناته وصحفه فقابلوا كرمه جفاءً واعراضا.
ومن نافل القول التذكير بأن طبيبنا الاردني ابن الكرك الغراء، هو مؤسس تجربة شيحان، ثم العرب اليوم، وهو اخيراً مؤسس ورئيس فضائية الجوسات، عبر رحلته الاعلامية المحفوفة بالآلام لم يقبل د.رياض أن يكون لقمة سائغة بل بقي عصي على الابتلاع، فلا اشترته مناصب ولا لوثته مكتسبات، ومن تحت ايديه خرج وصعد بعضهم إلى كراسي الوزارات، ولعل هذا من اسباب الحقد على الرجل أولم يقل الشاعر : اتقِ شر من احسنت إليه؟
لذا فمن الذين احسن إليهم الرجل يوماً خرج من طعنوه في ظهره، واستمرؤوا نزيف الرجل وعذابه بلذة ليست تدانيها سادية على الاطلاق، كيف لا وهم المستعدون ابداً لتأجير حناجرهم ومواقفهم كيفما ذهبت ارادة السلطان، ولسان حالهم يقول :"إلعب بالذي تغلب به".
الذين اغلقوا الجوسات، لم يفعلوا ذلك للسبب الظاهري برأيي أي ليس لحلقة خرج فيها ضيف عن أصول لغة الخطاب السياسي وهي على كل الأحوال ليست جريرة القناة، بل لأن الجوسات حطمت جدار الصمت، والصمت مطلوب فيما يقدم النظام على جريمته الانتخابية الجديدة، فهو وتلك حاله أبعد ما يكون عن القدرة على احتمال مناقشات تبثها الجوسات حول قانون الانتخاب وموقف الحراك والاخوان والدعوة إلى مقاطعتها، ولأن موقف النظام ضعيف وفاقد للشرعية والقدرة على الاقناع فلا قبل له بمعركة كهذه، كما كان دوماً في كل حوار شاركنا فيه، حيث كانت د. رلى الحروب تبذل جهداً خرافياً لاستضافة أي من ممثلي وجهة نظر النظام دون طائل، وأنا لا ألومهم فالسادة النجب ليسو معتادين على حوار حر متكافئ، وبالكاد يستطيع التلفزيون الاردني احتمال خفتهم السياسية ووهن حججهم، ذلك التلفاز الذي ينفق عليه الشعب الأردني ولا يراه إلا وهو يغني لغيره!
ورغم كل ما قيل ويقال عن التمويل وعن الدعم زوراً وبهتاناً وافكا، تعجز الجوسات عن الظهور للعالم من الخارج لأسباب مالية بحتة، بل ربما بتكلفة الوليمة التي اقامها عبدالرؤوف الروابدة لحماة الديار من انصاره وما تبع الوليمة وسبقها من نفقات، ولا تجد القناة الاكثر مشاهدة واهتماماً وتأثيراً في الرأي العام، من يقف خلفها ويدعمها، ولا ضير فأحياناً يسأل المرء نفسه في بيئة يسمع فيها عن رجال الاعمال وعن الاثرياء ثراء فاحشاً ممتداً، اين هم من دعم مشروع كهذا أو تبنيه؟ لكن لا عجب طالما أن دورة الثروة والمال عندنا متعلقة بالفساد وحلقات نظامه تعلق الجسد بالروح، فطفيليتها تلك لا يمكن أن تجعل منها نواة لرأسمالية وطنية حقيقية، لها مصلحة عضوية في تطور البلد ونظامه وقوانينه.
للحظة شعرت أن الجوسات الغائب الاكبر في فضائنا اليوم حاضرة في كل حديث عام، ومع ذلك لا يصرح باسمها احد، فكأنها اسم من اسماء الحرية نتواطأ على طمسه واخفائه، لكن شمس الجوسات اشرقت ولوحت وجه الاردن الاسمر وما عاد الرجوع إلى الوراء ممكناً أبداً.