اصلاحات "اللهو الخفي"
التوافق الوطني هو جوهر المشروع الاصلاحي وجوهر بناء الدولة، وغياب أو بدقة تغيب التوافق الوطني في الاردن هو من اطلق الرصاص على المولود الاصلاحي، وضيع الفرصة التاريخية التي كان بالامكان استثمارها لتقديم النموذج الأردني أخضراً سلمياً، وواهم من يعتقد أن الاصوات التي بدأت ترتفع بعد أن اصابها الاحباط من امكانية تحقيق ذلك قليلة وشاذة في الحراك، فقد اثبت العوران ورفاقه عكس ذلك وعبر صندوق الاقتراع، ولم يعد بإمكان كل رموز النظام التنصل من الحراك او ادانته، وبدأنا نسمعهم جميعاً يعلنون أنهم مع الحراك من رأس الهرم إلى أصغر موظفيه!!
هكذا بات الاتهام بمعادات الحراك ملقاً على عاتق "اللهو الخفي" ولقبه في الأردن "قوى الشد العكسي"، وصف نتحفظ عليه؛ لأن النظام يطلقه على كل من لا يمرر ارادته ورؤيته الخاصة، علماً بأن الحراك وفق بياناته من الشمال إلى الجنوب لا يرى في تلك الرؤية إلى محاولة لاجهاض المشروع الاصلاحي، واستمرار الاستفراد بالسلطة والقرار واهدار مبدأ تلازم السلطة والمسؤولية، فكيف أصبح سكرتير النظام الأول المستقيل أو ما يفترض أنه رئيس الوزراء المستقيل هو نفسه "قوى شد عكسي"؟!
مؤكد أنه لم يكتسب هذه الصفة كونه ضد رؤية النظام لماهية الاصلاح، وهو للامانة قبل على نفسه أن تسجل باسمه مجموعة من اسوأ الاعمال التي لا تليق بقاض دولي أو برجل يدعي احترام القانون، من مثل اعتقال الحراكيين في الطفيلة والدوار الرابع واهانتهم وتعذيبهم، ثم أخيراً اعتقال رئيس تحرير جراسا نيوز الزميل جمال المحتسب، هذا فضلاً عن أنه لم يتوانى اصلاً عن تمرير النظام الانتخابي المهزلة الذي هبط عليه بالبرشوت، واعاد احياء تهمة مناهضة النظام!
والرجل برأيي لا يحسد على موقفه، ليس لأن النظام لفظه وصنفه في خانة قوى الشد العكسي فهذا ديدن نظامنا وما من جديد هنا، بل لأنه قبل على نفسه أن يسجل في تاريخه نقطة سوداء، بتحمل المسؤولية عن انتهاكات خطيرة مارستها حكومته ضد اسمى الحقوق الانسانية، حق وحرية التعبير السلمي عن الرأي، وللامانة أنا لا اعرف كيف سيقدم الرجل نفسه كما ينتوي في قادم الايام في المحافل الدولية كرجل من رجال القضاء الدولي، إلا إذا كان سيتحول عنه ليكتفي بما اكتفى به في جلسته مع بعض النواب (على ذمة جميل النمري) بتاريخ الأدب وأبيات الشعر، فمن الممكن حينها أن يقدم نفسه خبيرا بعمر الخيام.
المهم أن الغضبة لم تكن لاعتراض الرجل على الاعتقالات والاعتداءات، ولا للاعتراض على أن نظام انتخابي هبط عليه بالبرشوت، ولا لأنه سعى لخلق مظلة توافق وطني حول مشروع اصلاحي لو عمل عليها لكانت له شرعية ما، تؤهله للمطالبة عندها بالولاية العامة التي ما انفك يتكلم عن استردادها دون ادنى سعي لامتلاك المقومات التوافقية التي تمنحه شرعية طلبها من حيث المبدأ.
الغضبة كانت للتباطؤ في تنفيذ رؤية النظام الخاصة والانفرادية لانجاز شيء لا يرضي إلا من تم وعدهم والالتزام امامهم خاصة في "العالم" بإنجازه مفرغاً من كل مضمون حقيقي.
الرجل إذن لم يعترض اطلاقاً على الرؤية نفسها فلا بطولة له في ذلك، بل على العكس وضع على كتفيه اوزاراً لا اعرف كيف سيكمل حياته معها، مشكلته أنه لم يكن بالسرعة المطلوبة فكان لا بد إذن من استبداله بالرجل الجاهز، سرعة ولياقة فائقة تشهد بها اروقة مفاوضات الأردن مع اسرائيل، بل أن هذه اللياقة والسرعة في انجاز الاتفاق هي شهادة الكفاءة التي تمنحها الجهات الدولية نفسها التي التزمنا امامها قبل ان نلتزم امام شعبنا بالمولود الأصلاحي، ذلك المولود الاصلاحي الذي لا يشبه شيء وليس بشيء لكنه يحمل اسم كل شيء كما تعلمون.
يبدو أن السير في طريق سكرتاريا النظام الأولى "رئاسة الوزراء" حسب الوصف القانوني والدستوري، لا يمكن بلوغها إلا من قبل من مروا من هناك؛ حيث سفارتنا وحيث اروقة مفاوضاتنا مع دولة الكيان الصهيوني، وهذه ظاهرة تستحق التأمل فعلاً فالبخيت والخصاونة والطراونة مروا من هناك بهذه الطريقة أو تلك، فهل لا بد أن يمر الاصلاح من هناك ايضا؟!
ثم ما هي الاعتبارات التي تدفع نظامنا امام الازمة المالية الخانقة لخيار رفع الاسعار على ما فيه من مغامرة ومخاطرة في ظل ارتهان المساعدات الخليجية بقطع العلاقات مع نظام الأسد ومساعدة الثوار، فهل المسألة هنا التحالف الاستراتيجي مع الاسد مثلا؟! أم أن الجهات التي طالما التزمنا امامها هي من لا يريدنا أن نفعل؟!
لا املك ان امنع نفسي هنا من استحضار السادات عندما قال: "99% من أوراق اللعبة في يد امريكا" وعندما يكون الحديث عن منطقتنا تختزل امريكا تلقائياً بإسرائيل، فهل المطلوب ادرك أن 99% من أوراق اللعبة في يد اسرائيل مثلاً؟ عموماً فإن تدهور مستوى ادارة سياساتنا الخارجية يقال فيه أكثر مما قاله مالك في الخمر.
سرعة فايز الطراونة ورشاقته وطاعته، ستؤدي إلى وضوح رؤية الحراك للمرحلة القادمة على أساس أن النظام ضد الاصلاح، وأنه مستمر في تجاهل فكرة التوافق الوطني حول المشروع الاصلاحي، فهو ضد تعديل دستوري جوهري يحصن المجلس النيابي من الحل، ويضمن حق الاغلبية النيابية في اختيار رئيس الوزراء، ويكرس مبدأ تلازم السلطة والمسؤولية، وهو غير جاد على الاطلاق في محاكمة ومحاسبة الفاسدين، ولن يقبل نظاماً انتخابياً عماده التمثيل السياسي الفعال عبر القوائم النسبية على مستوى الوطن والمحافظات، ومقدم على انتخابات لن يشارك بها الاخوان ولا الحراك الشعبي ولا الاحزاب اليسارية والقومية، وفوق كل ذلك يحمل رهانات دولية فاشلة تماماً تعجز عن سد عجز الموازنة وترغم المالية العامة على زيادة الازمة استعاراً عبر رفع الاسعار.
القوى الاصلاحية في الأردن لن تقبل اليوم بأقل من حكومة توافق وطني على مشروع اصلاحي، حكومة لا يرأسها سكرتير أول بل رئيس وزراء حقيقي، وإن كانت "روما النظام" هي الحفاظ على العرش فليس صحيحاً أن كل الطرق تؤدي إلى روما، لذا نكرر ما قاله شباب الحراك الشعبي قبل اسابيع في جرش "نحن نريد أن يستمر الملك ولكن هل يريد هو أن يستمر؟".